المواضيع الأخيرة
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
ريانية العود | ||||
عادل لطفي | ||||
عذب الكلام | ||||
zineb | ||||
azzouzekadi | ||||
بريق الكلمة | ||||
TARKANO | ||||
ليليان عبد الصمد | ||||
ام الفداء | ||||
السنديانة |
بحـث
.ft11 {FONT-SIZE: 12px; COLOR: #ff0000; FONT-FAMILY: Tahoma,Verdana, Arial, Helvetica; BACKGROUND-COLOR: #eeffff}
.IslamicData
{ font-family: Tahoma, Verdana, Arial, Helvetica, sans-serif;
font-size: 10pt; font-style: normal; line-height: normal; font-weight:
normal; font-variant: normal; color: #000000; text-decoration: none}
الساعة
عدد زوار المنتدى
محلُّ العقلِ في الانسان
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
محلُّ العقلِ في الانسان
لا يخفى على معاليكم أنَّ بحثَ ( العقلِ ) بحثٌ فلسفيٌّ قديم , وللفلاسفة فيه مائة طريقٍ باعتباراتٍ كثيرةٍ مختلفةٍ , غالبُها : كلُّه تخمينٌ وكذبٌ وتخبطٌ في ظلامِ الجهلِ .
وهم يسمّونَ الملائكةَ : عُقولاً (2) .
ويُكثرونَ البحثَ في (العقولِ العشرةِ) المعروفة عندهم ، ويزعمون أن المؤثِّر في العالمِ هو العقلُ الفيَّاضِ (3) ، وأنَّ نوره ينعكس على العالم كما تنعكس الشَّمسُ على المرآةِ فتحصلُ تأثيراتُه بذلك الانعكاس (4) .
ويبحثونَ في (العقلِ البَسيطِ) الذي يُمَثِّلُ به المنطِقيّون ?(النَّوعِ البَسيطِ) … إلى غيرِ ذلك من بحوثِهم الباطلة المتعلِّقة بالعقلِ من نواحٍ شتَّى .
[ الأَقوالُ في المَسألَةِ ]
1ـ ومِن تلكَ البحوثِ (5) قولِ عامَّتِهم ¬ إلاَّ القليل منهم ¬ : أَنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ .
وتبعهم في ذلك قليلٌ من المسلمينَ , ويُذكَرُ عن الإمام أحمد : أنَّه جاءت عنهُ روايةٌ بذلك .
2ـ وعامَّةُ علماءِ المسلمينَ على : أَنَّ محلَّ العقلِ : القَلبُ .
وسَنُوَضِّح ¬ إنْ شاءَ الله تعالى ¬ حُجج الطَّرفين ، ونُبَيِّن ما هو الصواب في ذلك .
• اعلم ¬ وفَّقنا الله وإيَّاك ¬ أنَّ العقل : نورٌ روحانِيٌّ تُدرِكُ بهِ النَّفسُ العلومَ النَّظريَّةِ والضَّرورِيَّةِ . وأنَّ مَن خَلَقَهُ وابرزَهُ من العَدَمِ إلى الوجودِ ، وزَيَّن به العُقلاءَ وأكرمَهُم به (6) : أعلمُ بمكانِهِ الذي جعلهُ فيه مِن جُملةِ (7) الفلاسفَةِ الكَفَرَةِ الخاليةِ قلوبِهم من نورٍ سماويٍّ وتعليمٍ إلهيٍّ .
وليسَ أحدٌ بعدَ اللهِ أعلمُ بمكانِ العقلِ من النَّبِيِِّ ( ، الذي قالَ في حَقِّهِ ? وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ? ( .
وقالَ تَعالَى عن نَفسِهِ : ? قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ ? (9) .
والآياتُ القرآنيّةُ والأحاديثُ النَّبَوِيَّةُ في كلٍّ منها التَّصريحُ بكثرَةٍ : بِأَنَّ محلَّ العقلِ القلبُ , وكثرةُ ذلكَ وتكرارُهُ في الوحيينِ : لا يتركُ احتمالاً ولا شكَّاً في ذلكَ , وكلَّ نَظَرٍ عَقلِيٍّ صحيحٍ يستحيلُ أن يخالفَ الوحْيَ الصَّريحَ , وسنذكرُ طرفاً من الآياتِ الدَّالة على ذلك ، وطَرَفاً من الأحاديثِ النَّبويَّةِ , ثم نُبَيِّنُ حُجَّةَ مَن خالفَ الوَحيَ من الفلاسفةِ ومَن تَبِعَهُم ، ونُوَضِّحُ الصَّوابَ في ذلكَ ¬ إنْ شاءَ اللهُ تعالَى ¬ .
• واعلمْ أوّلاً : أنَّه يغلبُ في الكتابِ والسّنةِ إطلاقُ ( القلبِ ) وإرادةُ ( العقلِ ) وذلك أُسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ ؛ لأنَّ من أساليبِ اللغةِ العربيَّةِ : (إطلاقُ المحلِّ وإرادةُ الحالِّ فيهِ) كعكسِهِ ، والقائلونَ بالمجازِ يُسمّون ذلك الأسلوبَ العربيَّ : مجازاً مُرسَلاً (10) .
ومِنْ عِلاقات (المجازِ الْمُرسَلِ) (11) عندَهم :
1 : المحليّة (12) .
2 : والحاليّة (13) .
[ فالْمَحَلِّيَّةُ ] (14) : كإطلاقِ (القلبِ) وإرادةِ (العقلِ) ؛ لأنَّ القلبَ محلُّ العقلِ .
وكإطلاقِ (النَّهرِ) ¬ الذي هو الشَّقُّ في الأرضِ ¬ على (الماءِ الجاري فيه) كما هو معلومٌ في محلِّه .
وهذهِ بعضُ نُصوصِ الوَحيينِ :
1ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا (15) لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ? الآيَةُ (16) فعابَهُم الله بأنَّهم لا يَفقهونَ بقلوبِهم ؛ والفِقهُ : هو الفَهمُ (17) ، والفَهمُ لا يكونُ إلاَّ بِالعَقلِ , فدلَّ ذلك على : أنَّ القلبَ محلُّ العقلِ . ولو كانَ الأمرُ كما زعمَ الفلاسفةُ لقالَ [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( لهم أدمغةً لا يفقهونَ بها ) .
2ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? (18) ولم يقُل [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( فتكُونُ لهُم أدمغةٌ يَعقِلونَ بها ) ، ولم يَقُل : ( ولكنْ تَعمَى الأدمِغَة التي في الرُّؤوسِ ) . كما ترى فقد صرَّح في آية الحجِّ هذه بأنَّ : القلوب هي التي يُعقَل بها ، وما ذلك إلا لأنها محل العقلِ كما ترى . ثم أكَّد ذلك تأكيداً لا يترُكُ شبهةً ولا لبساً ؛ فقال تَعالَى : ? وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? (19) فتأمل قوله [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] ? الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? تفهم ما فيه من التأكيد والإيضاح ، ومعناه : أنَّ القلوبَ التي في الصُّدورِ هي التي تَعمَى إذا سَلَبَ الله منها نورَ العقلِ ، فلا تُمَيِّزُ بعد عَماها بين الحقِّ والباطلِ ، ولا بين الحسنِ والقبيحِ ، ولا بين النَّافعِ والضَّارِّ ، وهو صريحٌ بأنَّ الذي يُمَيَّزُ به كلُّ ذلك هو العقلُ ومحلُّهُ في القلبُ .
3ـ وقالَ تَعالى : ? يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ? ولم يقل : ( بدِماغٍ سَليمٍ ) .
4ـ وقالَ تَعالَى : ? خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ ? الآيَةُ (20) ولم يقُل : ( على أدمِغَتِهم ) .
5ـ وقالَ اللهُ تَبارَك وَتَعالَى : ? إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً (21) أَن يَفْقَهُوهُ ? الآيَةُ (22) ومفهومُ مُخالفَةِ الآيةُ : أنَّهُ لو لم يجعل الأكِنَّةَ على قُلوبهم لَفَقَهوهُ بِقُلُوبهم ، وذلك لأنَّ محلَّ العقلِ القلبُ كما ترى , ولم يقل [ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( إنَّا جعلنا على أدمغتهم أكِنَّةً أنْ يفقهوه ) .
6ـ وَقالَ اللهُ تَبارَك وتَعالَى : ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ? الآيَةُ (23) ولم يَقُل : ( لمن كان لهُ دماغٌ ) .
7ـ وَقالَ تَعالَى : ? ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ? الآيَةُ (24) ولم يَقُل [ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( ثم قَسَتْ أَدمِغَتِكُمْ ) وكَونُ القَلبِ إذا قَسَى لم يُطِع صاحِبُهُ اللهَ وإذا لانَ (25) أطاعَ اللهَ : دليلٌ على أنَّ الْمُمَيَّزَ (الذى) تُرادُ به الطَّاعَةُ والمعصيةُ محلُّهُ القلبُ كما ترى ¬ وهو العَقلُ ¬ .
8ـ وقالَ تَعالَى : ? فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ? (26) .
9ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ (27) فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ? (28) ولم يَقُل [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( فويلٌ للقاسِيَةِ أدمِغَتِهِم ) ولم يَقُل : ( فطالَ عليهِم الأمدُ فَقَسَت أَدمِغَتِهِم ) .
10ـ { صَفْحَة : 3 } وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ? الآيَةُ (29) ولم يَقُلْ : ( وخَتَمَ على سَمعِهِ ودِماغِهِ ) .
11ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ (30) بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ? الآيَةُ (31) ولم يَقُلْ : ( دِماغُهُ ) .
12ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ? (32) ولم يَقُل : ( ما ليسَ في أَدمِغَتِهم ) .
13ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ (33) ? (34) ولم يَقُل : ( أَدمِغَتِهِم مُنكِرَةٌ ) .
14ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? حَتَّى إِذَا فُزِّعَ (35) عَن قُلُوبِهِمْ ? (36) ولم يَقُل : ( إذا فُزِّعَ عن أدمِغَتِهِم ) .
15ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ? الآيَةُ (37) ولم يقل : ( أم على أدمغتهم أقفالُها ) .
وانظُر ! ما أصرَحَ آيةَ القتالِ هذهِ : في أنَّ التَّدَبُّرَ وإدراكَ المعانِيَ بهِ إنما هو القلبُ ، ولو جُعِلَ على القلبِ قُفلٌ لم يحصل الإدراك ؛ فَتَبَيَّنَ : أنَّ الدماغَ ليس هو محلُّ الإدراكِ كما ترى .
16ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ (38) اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ? الآيَةُ (39) ولم يقل : ( أزاغ الله أدمغتهم ) .
17ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ? الآيَةُ (40) ولم يقل : ( تَطْمَئِنُّ أدمغتهم ) .
18ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ (41) قُلُوبُهُمْ ? الآيَةُ (42) ولم يقل : ( وَجِلَتْ أدمغتهم ) .
و(الطُّمَائْنِينَةُ) و(الخَوْفُ عِندَ ذِكرِ اللهِ) كلاهُما إنما يحصلُ بالفَهمِ والإدراكِ , وقد طَرَحَت الآياتُ المذكورةِ بأنَّ محلَّ ذلكَ : القلبُ لا الدِّماغُ .
19ـ وبُيِّنَ في آياتٍ كثيرةٍ أنَّ الذي يُدرِكُ الخطرَ فَيَخافُ مِنهُ (43) ؛ هو : القلبُ الذي هو محلُّ العقلِ لا الدِّماغ , كقولِهِ تَعالَى : ? وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ? الآيَةُ (44) . وقَولُهُ تَعالَى : ? قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ? (45) وإنْ كان الخوفُ تَظهَرُ آثارُهُ على الإنسانِ .
20ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ ? الآيَةُ (46) ولم يقل : ( ونطبعُ على أَدمِغَتِهِم ) .
21ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ? الآيَةُ (47) .
22ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ? الآيَةُ (48) والآيَتانِ المذكورتانِ فيهما الدَّلالةُ على أنَّ محلَّ إدراكِ الخطرِ الْمُسَبِّبِ للخَوفِ هو القلبُ ¬ كما ترى ¬ لا الدِّماغُ .
والآياتُ الواردَةُ في الطَّبعِ على القُلوبِ مُتعدِّدةٌ :
23ـ كَقَولِهِ تَبارَكَ وَتَعالَى : ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ : آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ؛ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ? الآيَةُ (49) ولم يَقُل : ( فطبعَ على أَدمِغَتِهِم ) .
24ـ وَكَقَولِهِ تَعالَى : ? رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ (50) وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ? الآيَةُ (51) ولم يَقُل : ( على أَدمِغَتِهِم ) .
25ـ وَكَقَولِهِ تَعالَى : ? إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ? الآيَةُ (52) و(الطُّمَأْنِينَةُ بِالإِيمانِ) إِنَّما تَحصُلُ بإدراكِ فَضلِ [ الإِيمانِ ] (53) وحُسنِ نَتائِجِهِ وعَواقِبِهِ ، وقد صرَّحَ في هذهِ الآيةِ { صَفْحَة : 4 } بإسنادِ ذلكَ الاطْمِئنانِ إلَى القَلبِ الذي هو محلُّ العقلِ الذي هو أداةُ النَّفسِ إلَى الإدراكِ . ولم يَقُل : ( ودماغُهُ مُطمَئِنٌ بالإيمانِ ) .
26ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? قَالَتِ الأَعْرَابُ : آمَنَّا . قُل : لَّمْ تُؤْمِنُوا ، وَلَكِن قُولُوا : أَسْلَمْنَا ، وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ? (54) ولم يَقُل : ( في أَدمِغَتِهِم ) .
27ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ? (55) ، فقولُهُ تَعالَى : ? وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ? , وَقَولُهُ : ? كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ? صريحٌ في أَنَّ المحلَّ [ الذي ] (56) يدخُلُهُ الإيمانُ في المؤمِنِ ويَنتَفِي عنهُ دُخولُه في الكُفرِ : إنَّما هو القلبُ لا الدِّماغُ . وأساسُ الإيمانُ : إيمانُ القلبِ ؛ لأنَّ الجوارحَ كُلَّها تَبَعَ لهُ ؛ كما قالَ صَلَّى الله عَليهِ وآلِهِ وَسَلِّم : « أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ : صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . وَإِذَا فَسَدَتْ : فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ » (57) .
فظهرَ بذلكَ دِلالةُ الآيَتَينِ المذكورتَينِ على : أنَّ المصدرَ الأولَ للإيمانِ القلبُ ، فإذا آمَنَ القلبُ آمَنَت الجوارحُ بِفِعلِ المأموراتِ وتركِ المنهِيَّاتِ ؛ لأنَّ القلبَ أميرُ البَدَنِ , وذلك يدلُّ دِلالةً واضِحَةً على : أنَّ القلبَ ما كانَ كذلكَ إلاَّ لأنَّهُ محلُّ العقلِ الذي بهِ الإدراكُ والفَهمُ ¬ كَمَا تَرَى ¬ .
28ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ? الآيَةُ (58) فأسندَ الإثمَ بِكَتمِ الشَّهادةِ للقلبِ ولم يُسنِدْهُ للدِّماغِ ، وذلك يدلُّ على أنَّ كتمَ الشَّهادةِ ¬ الذي هو سببُ الإثمِ ¬ واقعٌ عن عَمدٍ ، و أَنَّ محلَّ ذلكَ العَمْدُ : القلبُ ؛ وذلكَ لأنَّه محلُّ العقلِ الذي يحصُلُ بهِ الإدراكُ وقصدُ الطَّاعَةِ وقَصدُ المعصِيةِ كما تَرى .
29ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ ¬ في حفصةَ وعائشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ¬ : ? إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ : فَقَدْ صَغَتْ (59) قُلُوبُكُمَا ? (60) أَي : إنْ مالَت قُلوبُكُما إلَى أمرٍ تَعلَمان أنَّه صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكرَهُهُ , سواءٌ قُلنا :
1 : إِنَّهُ تحريمُ شُربِ العَسَلِ الذي كانَت تَسقِيهِ إيّاهُ إحدَى نِسائِهِ (61) .
2 : أو قُلْنا : إنَّهُ تحريمُ جارِيتَهُ مارِيةَ (62) .
فقولُهُ تَعالى : ? صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ? أَي مالَت ، يدلُّ على أنَّ الإدراكَ وقصدُ الميلِ المذكورِ محلُّهُ : القلبُ . ولو كان الدِّماغُ لقالَ : ( فقد صَغَتَ أدمِغَتُكُما ) كما ترى .
ولما ذكرَ كلٌّ منَ اليهودِ والمشركينَ أنَّ محلَّ عقولِهم هو قلوبُهُم ، قَرَّرَهُم اللهُ على ذلكَ ؛ لأنَّ كونَ القلبِ محلُّ العقلِ هوَ حقٌّ , وأَبطلَ دَعواهُم مِن جهةٍ أُخرى ، وذلكَ يَدلُّ بإيضاحٍ على أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ .
30ـ أما اليهودُ ¬ لعنَهُم اللهُ ¬ :
فقد ذكر اللهُ ذلك عنهم في قولِهَِ : ? وَقَالُواْ : قُلُوبُنَا غُلْفٌ ? (63) , فقالَ تعالى : ? بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ { صَفْحَة : 5 } ? (64) فقولُهم : ? قُلُوبُنَا غُلْفٌ ? [ (غلف) فيها قِراءتانِ ] (65) :
1 : (غُلْفٌ) بسكونِ الَّلامِ (66) ؛ يعنونَ : أَنَّ عليها غِلافاً ¬ أي : غِشاءً ¬ يَمْنَعُها مِن فهمِ ما تَقولُ .
فقرَّرَهُم اللهُ تَعالَى على : أَنَّ قلوبَهم هيَ محلُّ الفَهمِ والإدراكِ ؛ لأنَّها محلُّ العقلِ ، ولكن كَذَّبَهم في ادِّعائِهم أَنَّ عليها غِلافاً مانِعاً مِن الفَهمِ , فقالَ ¬ على سبيلِ الإضْرابِ الإبْطالِي (67) ¬ : ? بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ? .
2 : وأمَّا على قِراءَةِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما : ( قُلُوبُنا غُلُفْ ) بِضَمَّتَين ؛ يَعنونَ : أنَّ قُلوبَهم كأنَّها غِلافٌ مَحْشُوٌّ بِالعُلومِ والمعارِفِ فلا حاجَةَ إلَى ما تَدعونَنا إليهِ .
وذلكَ يدلُّ على عِلمِهِم بأَنَّ محلَّ العلمِ والفَهمِ : القُلوبَ لا الأدمِغَةَ .
31ـ وأمَّا المشركونَ :
فقد ذكرَ اللهُ ذلكَ عنهُم في قولِهِ : ? وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ? الآيَةُ (68) فكانوا عالِمِين بأنَّ محلَّ العقلِ : القلبُ , ولذا قالوا : ? قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ? ولم يَقولُوا : ( أدمِغَتِنا في أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ) , والله لم يُكَذِّبْهُم في ذلكَ ولكنَّهُ وَبَّخَهُم على كُفرِهِم بِقولِهِ : ? قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ? الآيَةُ (69) وهذه الآياتِ التي أُطلِقَ فيها القلبُ مراداً بهِ العقلُ ؛ لأنَّ القلبَ هو محلُّهُ , أوضحَ اللهُ المرادَ منها بقولِهِ : ? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ? الآيَةُ (70) فصَرَّحَ : بأَنَّهم يَعقِلونَ بالقلوبِ ، وهو يدلُّ على أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ دلالةً لا مطعنَ فيها كما ترى .
32ـ وقالَ اللهُ تعالَى : ? فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ? (71) ولم يَقُل : ( يختمُ على دِماغِكَ ) .
33ـ وقالَ تَعالى : ? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ? (72) ولم يقُلْ : ( خَتَمَ على أدمِغَتِكُم ) .
34ـ وقالَ تعالى في سُوْرَةُ النَّحلِ : ? أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ? (73) ، وقالَ تعالَى : ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ? الآيَةُ (74) ولم يَقُل : ( امْتَحَنَ أَدمِغَتَهُم ) .
35ـ وقالَ تَعالَى : ? وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ? الآيَةُ (75) والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ ؛ ولِنَكْتَفِ مِنْها بما ذَكَرْناهُ خَشيَةَ الإطالَةِ الْمُمِلَّةِ .
• وأَمَّا الأَحاديثُ الْمُطابِقَةُ لِلآياتِ التي ذَكَرناها والدَّالَّةِ على أَنَّ مَحَلَّ العَقلِ القَلبُ فهِيَ كَثيرةٌ جِدّاً :
كالحديثِ الصَّحيحِ والذي فيهِ : « أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ : صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . وَإِذَا فَسَدَتْ : فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ » (76) ولم يقل فيه : ( أَلا وَهِي الدِّماغُ ) .
وكقولِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ : « يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ » . قَالَ : فَقُلْنَا ! يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : فَقَالَ : « نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا » (77) ولم يقلْ : ( يا مُقَلِّبَ الأدمِغَةَ ثَبِّتْ دِماغِي على دِينِكَ ) .
وكقولِهِ صَلَّى الله عَليهِ وَسَلِّم : « قَلْبُ المؤْمِنِ بَينَ إصْبَعَينِ مِنْ أَصابِعِ الرَّحمنِ » (78) وهو مِن أحاديثِ الصِّفاتِ { صَفْحَة : 6 }، ولم يقل : دِماغُ المؤمن … إلخ .
والأحاديثُ بِمثِلِ هذا كثيرةٌ جِدّا فلا نُطيلُ بها الكلامَ .
[ الخُلاصَةُ ]
وقد تَبَيَّنَ ممَّا ذَكَرنا : أَنَّ خالِقَ العَقلِ وواهِبَهُ للإنسانِ بَيَّنَ في آياتٍ قُرآنِيّةٍ كَثيرةٍ أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ , وخالِقُهُ أعلمُ بمكانِهِ مِن كَفَرَةِ الفَلاسِفَةِ .
وكذلكَ رسولُ اللهِ صَلَّى الله عَليهِ وآلِهِ وَسَلِّم ¬ كما رَأَيتَ ¬ .
أمَّا عامَّةُ الفَلاسِفَةِ ¬ إلاَّ القليلُ النَّادِرِ مِنهُم ¬ فإنَّهم يَقولونَ : أَنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ .
وشذَّت طائفةٌ مِن مُتأخِّريهم : فزَعَموا أنَّ العَقلَ ليسَ لهُ مَركَزٌ مَكانِيٌّ في الإنسانِ أَصلاً ؛ وإنَّما هو زَمانِيٌّ مَحضٌ لا مَكانَ لهُ .
وقولُ هؤلاءِ أَظهَرُ سُقوطاً مِن أنْ يُشْتَغَلُ بِالكَلامِ عَلَيهِ .
ومِن أشهرِ الأَدلَّةِ التي يَستَدِلُّ بها القائلونَ مِنْ أنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ ؛ هو : أنَّ كلَّ شيءٍ يُؤثِّرُ في الدِّماغِ يُؤثِّرُ في العقلِ .
ونحنُ لا نُنكِرُ أنَّ العقلَ قد يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ ؛ ولكن نَقولُ بِموجِبِهِ , فنقولُ : سَلَّمنا أنَّ العقلَ قد يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ ، ولكن لا نُسَلِّمُ أنَّ ذلكَ يَستَلزِمُ أنَّ محلَّهُ الدِّماغُ :
فَكَم مِن عُضوٍ مِن أعضاءٍ الإنسانِ خارِجٌ عَنِ الدِّماغِ ¬ بلا نِزاعٍ ¬ وهوَ يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ كما هوَ معلومٌ .
وكَم مِن شَلَلٍ في بعضِ أعضاءِ الإنسانِ ناشِئٌ عَن اختلالٍ واقِعٍ في الدِّماغِ .
فالعقلُ خارِجٌ عَن الدِّماغِ ؛ ولكنَّ سَلامَتَهُ مَشروطَةٌ بِسلامَةِ الدِّماغِ ؛ كالأعضاءِ التي تختلُّ باختِلالِ الدِّماغِ ؛ فإنَّها خارِجَةٌ عنهُ معَ أنَّ سلامَتَها مَشروطٌ فيها سلامَةُ الدِّماغِ ¬ كما هوَ معروفٌ ¬ .
وإظهارُ حُجَّةَ هؤلاءِ والرَّدُّ عليها على الوجهِ المعروفِ في (آدابِ البحثِ والمناظرةِ) :
أنَّ حاصِلَ دليلِهم : أنهم يستدلون بـ(قياسٍ منطقيٍّ) من الشرطِ المتَّصلِ المركَّبِ من : شَرطِيَّةٍ مُتَّصِلَةٍ لُزومِيَّةٍ واستِثنائِيَّة يَستَثنونَ فيهِ نَقيضَ التَّالِي فينتجُ لهم ¬ في زعمِهم ¬ دعواهُم المذكورَةُ والتي هي نَقيضُ المقدَّمِ .
وصورَتُهُ : أنَّهم يقولونَ : ( لو لم يكُن العقلُ في الدِّماغِ لَما تَأَثَّرَ بِكُلِّ مُؤثِّرٍ على الدِّماغِ ، لكنَّهُ يَتَأَثَّرُ بِكُلِّ مُؤَثِّرٍ على الدِّماغِ . فَيَنتُجُ : أَنَّ العقلَ في الدِّماغِ ) .
وهذا الاستدلالُ مردودٌ بالنَّقضِ التَّفصيليِّ الذي هوَ المنعُ ؛ وذلك : بِمَنعِ كُبْراهُ التي هيَ شَرطِيَّتُهُ ؛ فنقولُ :
المانِعُ : مَنعُ قولِكَ : (لو لم يكُن العقلُ في الدِّماغِ لَما تَأَثَّرَ بِكُلِّ مُؤثِّرٍ علي الدِّماغِ) بل هو خارِجٌ عَن الدِّماغِ ، معَ أَنَّهُ يتأثَّرُ بكلِّ مؤثِّرٍ على الدِّماغِ كغيرِهِ مِنَ الأعضاءِ التي تتأثَّرُ بِتأثّرِ الدِّماغِ . فالرَّابطُ بينَ التَّاليِ والمقدّم غَيرُ صحيحٍ ، والمحلُّ الذي يَتوارَدُ عليهِ { صَفْحَة : 7 } الصِّدقُ والكذِبُ في الشَّرطِيَّةِ إنَّما هو الرَّابِطُ بين مُقَدِّمِها وتاليها , فإنْ لم يكُن الرَّبطُ صَحيحاً كانَت كاذِبِةً , والرَّبطُ في قَضِيتِهم المذكورةِ : كاذِبٌ , فظهرَ بُطلانُ دَعواهُم .
وهناكَ طائفةٌ ثالثةٌ : أرادت أنْ تجمعَ بينَ القولين ؛ فقالتْ : إنَّ ما دَلَّ عليه الوحي مِن كونِ محلِّ العقلِ هو القلبُ صحيحٌ , وما يقولُه الفلاسفةُ ومَن وافَقهُم من أنَّ محلَّهُ الدِّماغُ صحيحٌ أيضاً , فلا منافاةَ بينَ القولَين .
قالُوا : ووجهُ الجَمعِ أنَّ العقلَ في القَلبِ ¬ كما فِي القُرآنِ والسَّنة ¬ ، ولكنَّ نُورُهُ يَتَصاعَدُ مِنْ القَلبِ فيتَّصِلُ بِالدِّماغِ ، وبواسطةِ اتِّصالِهِ بالدِّماغِ يَصدُقُ عليهِ أنَّهُ في الدِّماغِ من غيرِ مُنافاةٍ لكونِ محلِّهِ هو القلبُ .
قالُوا : وبهذا يندَفِعُ التَّعارُضُ بَيْنَ النَّظرِ العَقلي ¬ الذي زعمَهُ الفلاسفةُ ¬ وبَينَ الوَحي .
واستدلَّ بعضُهم لهذا الجمعِ بـ(الاستقراءِ غَيرِ التَّامِّ) وهوَ المعروفُ في الأصولِ بـ(الإِلحاقِ بالغالبِ) وهو حُجَّة ظنِّيَّةٌ عِندَ جماعةٍ مِنَ الأصوليينَ ، وإليه أشارَ صاحبُ (مراقي السُّعودِ) في كتابِ الاستدلالِ (79) ، في الكلامِ على أقسامِ الاستقراء بقوله :
وَهْوَ لَدَىَ البَعْضُ إِلَى الظَّنِّ انْتَسَبَ يُسْمَى لُحُوْقَ الفَرْدِ بِالَّذِيْ غَلَبْ
ومعلومٌ أنَّ (الاستقراءَ) هوَ : تَتَبّعُ الأفرادِ حتى يغلبَ على ظنِّهِ أنَّ ذلكَ الحكمَ مُطَّرِدُ فِي جميعِ الأَفرادِ .
وإيضاحُ هذا : أنَّ القائلينَ بالجمعِ المذكورِ بين الوحيَ وأقوالَ أهلِ الفلسفَةِ في محلِّ العقلِ ؛ قالت جماعةٌ منهُم : دليلُنا على هذا الجمعِ الاستقراءُ غيرُ التَّامِّ , وذلك أنَّهم قالوا : تتبَّعنا أفرادَ الإنسانِ الطَّويلِ العُنُقِ طُولاً مُفرِطاً زائِداً على المعهودِ زِيادَةً بَيِّنَةً ؛ فوجَدنا كلَّ طويلِ العُنُقِ طُولاً مُفرِطاً ناقِصَ العَقلِ ؛ وذلك لأنَّ طولَ [ العُنُق ] (80) طولاً مُفرِطاً يلزمُهُ بُعدَ المسافةِ بينَ طريقِ نُورِ العقلِ الكائنِ في القلبِ وبينَ المتصاعِدِ منهُ إلى الدِّماغِ , وبُعدُ المسافةِ بينَ طَرَفيهِ قد يُؤدِّي إلى عدمِ تماسُكِه واجتماعِه فيظهرُ فيه النَّقصُ .
وهذا الدَّليلُ ¬ كما ترى ¬ ليسَ فيه مقنَعٌ وإنْ كان يُشاهَدُ مِثلَهُ في الخارِجِ كَثيراً .
? فتَحصَّل مِنْ هذا :
أنَّ الذي يقولُ : ( أنَّ العقلَ في الدِّماغِ وحدَهُ وليسَ في القلبِ منهُ شيءٌ ) أنَّ قولَهُ في غايةِ البُطلانِ ؛ لأنَّهُ مُكَذِّبٌ لآياتٍ وأحاديثَ كثيرةٍ جدّاً ¬ كما ذَكَرنا بعضَهُ ¬ .
وهذا القولُ لا يتجرّأُ عليهِ مسلمٌ إلاَّ إن كانَ لا يُؤمِنُ بكتابِ اللهِ ولا بِسُنَّةِ رسولِهِ ( ؛ وهوَ إنْ كانَ كذلكَ : فَلَيسَ بمسلمٍ { صَفْحَة : 8 } .
ومَنْ قالَ : ( إنَّهُ في القلبِ وحدَهُ وليسَ في الدِّماغِ منهُ شيءٌ ) فقولُهُ هو ظاهِرُ كتابِ الله وسُنَّةِ رسولِهِ ( ، ولم يقُم دليلٌ جازمٌ قاطعٌ مِن نَقلٍ ولا عقلٍ على خِلافِهِ .
ومَنْ جمعَ بينَ القولينِ ؛ فقولُهُ : جائزٌ عَقلاً ، ولا تكذيبَ فيهِ للكتابِ ولا للسّنّةِ ، ولكنَّهُ يحتاجُ إلى دليلٍ يجبُ الرُّجوعُ إليهِ ؛ ولا دليلَ عليهِ منَ النَّقلِ ؛ فإنْ قامَ عليهِ دليلٌ مِن عقلٍ أو استقراءٍ محتجٌّ بهِ فلا مانِعَ مِنْ قَبولِه . والعلمُ عندَ الله .
وهذا ما يَتَعَلَّقُ بِالمسأَلَةِ الأُولَى
منقول للفائدة
وهم يسمّونَ الملائكةَ : عُقولاً (2) .
ويُكثرونَ البحثَ في (العقولِ العشرةِ) المعروفة عندهم ، ويزعمون أن المؤثِّر في العالمِ هو العقلُ الفيَّاضِ (3) ، وأنَّ نوره ينعكس على العالم كما تنعكس الشَّمسُ على المرآةِ فتحصلُ تأثيراتُه بذلك الانعكاس (4) .
ويبحثونَ في (العقلِ البَسيطِ) الذي يُمَثِّلُ به المنطِقيّون ?(النَّوعِ البَسيطِ) … إلى غيرِ ذلك من بحوثِهم الباطلة المتعلِّقة بالعقلِ من نواحٍ شتَّى .
[ الأَقوالُ في المَسألَةِ ]
1ـ ومِن تلكَ البحوثِ (5) قولِ عامَّتِهم ¬ إلاَّ القليل منهم ¬ : أَنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ .
وتبعهم في ذلك قليلٌ من المسلمينَ , ويُذكَرُ عن الإمام أحمد : أنَّه جاءت عنهُ روايةٌ بذلك .
2ـ وعامَّةُ علماءِ المسلمينَ على : أَنَّ محلَّ العقلِ : القَلبُ .
وسَنُوَضِّح ¬ إنْ شاءَ الله تعالى ¬ حُجج الطَّرفين ، ونُبَيِّن ما هو الصواب في ذلك .
• اعلم ¬ وفَّقنا الله وإيَّاك ¬ أنَّ العقل : نورٌ روحانِيٌّ تُدرِكُ بهِ النَّفسُ العلومَ النَّظريَّةِ والضَّرورِيَّةِ . وأنَّ مَن خَلَقَهُ وابرزَهُ من العَدَمِ إلى الوجودِ ، وزَيَّن به العُقلاءَ وأكرمَهُم به (6) : أعلمُ بمكانِهِ الذي جعلهُ فيه مِن جُملةِ (7) الفلاسفَةِ الكَفَرَةِ الخاليةِ قلوبِهم من نورٍ سماويٍّ وتعليمٍ إلهيٍّ .
وليسَ أحدٌ بعدَ اللهِ أعلمُ بمكانِ العقلِ من النَّبِيِِّ ( ، الذي قالَ في حَقِّهِ ? وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ? ( .
وقالَ تَعالَى عن نَفسِهِ : ? قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ ? (9) .
والآياتُ القرآنيّةُ والأحاديثُ النَّبَوِيَّةُ في كلٍّ منها التَّصريحُ بكثرَةٍ : بِأَنَّ محلَّ العقلِ القلبُ , وكثرةُ ذلكَ وتكرارُهُ في الوحيينِ : لا يتركُ احتمالاً ولا شكَّاً في ذلكَ , وكلَّ نَظَرٍ عَقلِيٍّ صحيحٍ يستحيلُ أن يخالفَ الوحْيَ الصَّريحَ , وسنذكرُ طرفاً من الآياتِ الدَّالة على ذلك ، وطَرَفاً من الأحاديثِ النَّبويَّةِ , ثم نُبَيِّنُ حُجَّةَ مَن خالفَ الوَحيَ من الفلاسفةِ ومَن تَبِعَهُم ، ونُوَضِّحُ الصَّوابَ في ذلكَ ¬ إنْ شاءَ اللهُ تعالَى ¬ .
• واعلمْ أوّلاً : أنَّه يغلبُ في الكتابِ والسّنةِ إطلاقُ ( القلبِ ) وإرادةُ ( العقلِ ) وذلك أُسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ ؛ لأنَّ من أساليبِ اللغةِ العربيَّةِ : (إطلاقُ المحلِّ وإرادةُ الحالِّ فيهِ) كعكسِهِ ، والقائلونَ بالمجازِ يُسمّون ذلك الأسلوبَ العربيَّ : مجازاً مُرسَلاً (10) .
ومِنْ عِلاقات (المجازِ الْمُرسَلِ) (11) عندَهم :
1 : المحليّة (12) .
2 : والحاليّة (13) .
[ فالْمَحَلِّيَّةُ ] (14) : كإطلاقِ (القلبِ) وإرادةِ (العقلِ) ؛ لأنَّ القلبَ محلُّ العقلِ .
وكإطلاقِ (النَّهرِ) ¬ الذي هو الشَّقُّ في الأرضِ ¬ على (الماءِ الجاري فيه) كما هو معلومٌ في محلِّه .
وهذهِ بعضُ نُصوصِ الوَحيينِ :
1ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا (15) لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ? الآيَةُ (16) فعابَهُم الله بأنَّهم لا يَفقهونَ بقلوبِهم ؛ والفِقهُ : هو الفَهمُ (17) ، والفَهمُ لا يكونُ إلاَّ بِالعَقلِ , فدلَّ ذلك على : أنَّ القلبَ محلُّ العقلِ . ولو كانَ الأمرُ كما زعمَ الفلاسفةُ لقالَ [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( لهم أدمغةً لا يفقهونَ بها ) .
2ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? (18) ولم يقُل [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( فتكُونُ لهُم أدمغةٌ يَعقِلونَ بها ) ، ولم يَقُل : ( ولكنْ تَعمَى الأدمِغَة التي في الرُّؤوسِ ) . كما ترى فقد صرَّح في آية الحجِّ هذه بأنَّ : القلوب هي التي يُعقَل بها ، وما ذلك إلا لأنها محل العقلِ كما ترى . ثم أكَّد ذلك تأكيداً لا يترُكُ شبهةً ولا لبساً ؛ فقال تَعالَى : ? وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? (19) فتأمل قوله [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] ? الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? تفهم ما فيه من التأكيد والإيضاح ، ومعناه : أنَّ القلوبَ التي في الصُّدورِ هي التي تَعمَى إذا سَلَبَ الله منها نورَ العقلِ ، فلا تُمَيِّزُ بعد عَماها بين الحقِّ والباطلِ ، ولا بين الحسنِ والقبيحِ ، ولا بين النَّافعِ والضَّارِّ ، وهو صريحٌ بأنَّ الذي يُمَيَّزُ به كلُّ ذلك هو العقلُ ومحلُّهُ في القلبُ .
3ـ وقالَ تَعالى : ? يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ? ولم يقل : ( بدِماغٍ سَليمٍ ) .
4ـ وقالَ تَعالَى : ? خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ ? الآيَةُ (20) ولم يقُل : ( على أدمِغَتِهم ) .
5ـ وقالَ اللهُ تَبارَك وَتَعالَى : ? إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً (21) أَن يَفْقَهُوهُ ? الآيَةُ (22) ومفهومُ مُخالفَةِ الآيةُ : أنَّهُ لو لم يجعل الأكِنَّةَ على قُلوبهم لَفَقَهوهُ بِقُلُوبهم ، وذلك لأنَّ محلَّ العقلِ القلبُ كما ترى , ولم يقل [ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( إنَّا جعلنا على أدمغتهم أكِنَّةً أنْ يفقهوه ) .
6ـ وَقالَ اللهُ تَبارَك وتَعالَى : ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ? الآيَةُ (23) ولم يَقُل : ( لمن كان لهُ دماغٌ ) .
7ـ وَقالَ تَعالَى : ? ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ? الآيَةُ (24) ولم يَقُل [ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( ثم قَسَتْ أَدمِغَتِكُمْ ) وكَونُ القَلبِ إذا قَسَى لم يُطِع صاحِبُهُ اللهَ وإذا لانَ (25) أطاعَ اللهَ : دليلٌ على أنَّ الْمُمَيَّزَ (الذى) تُرادُ به الطَّاعَةُ والمعصيةُ محلُّهُ القلبُ كما ترى ¬ وهو العَقلُ ¬ .
8ـ وقالَ تَعالَى : ? فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ? (26) .
9ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ (27) فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ? (28) ولم يَقُل [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( فويلٌ للقاسِيَةِ أدمِغَتِهِم ) ولم يَقُل : ( فطالَ عليهِم الأمدُ فَقَسَت أَدمِغَتِهِم ) .
10ـ { صَفْحَة : 3 } وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ? الآيَةُ (29) ولم يَقُلْ : ( وخَتَمَ على سَمعِهِ ودِماغِهِ ) .
11ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ (30) بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ? الآيَةُ (31) ولم يَقُلْ : ( دِماغُهُ ) .
12ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ? (32) ولم يَقُل : ( ما ليسَ في أَدمِغَتِهم ) .
13ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ (33) ? (34) ولم يَقُل : ( أَدمِغَتِهِم مُنكِرَةٌ ) .
14ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? حَتَّى إِذَا فُزِّعَ (35) عَن قُلُوبِهِمْ ? (36) ولم يَقُل : ( إذا فُزِّعَ عن أدمِغَتِهِم ) .
15ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ? الآيَةُ (37) ولم يقل : ( أم على أدمغتهم أقفالُها ) .
وانظُر ! ما أصرَحَ آيةَ القتالِ هذهِ : في أنَّ التَّدَبُّرَ وإدراكَ المعانِيَ بهِ إنما هو القلبُ ، ولو جُعِلَ على القلبِ قُفلٌ لم يحصل الإدراك ؛ فَتَبَيَّنَ : أنَّ الدماغَ ليس هو محلُّ الإدراكِ كما ترى .
16ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ (38) اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ? الآيَةُ (39) ولم يقل : ( أزاغ الله أدمغتهم ) .
17ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ? الآيَةُ (40) ولم يقل : ( تَطْمَئِنُّ أدمغتهم ) .
18ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ (41) قُلُوبُهُمْ ? الآيَةُ (42) ولم يقل : ( وَجِلَتْ أدمغتهم ) .
و(الطُّمَائْنِينَةُ) و(الخَوْفُ عِندَ ذِكرِ اللهِ) كلاهُما إنما يحصلُ بالفَهمِ والإدراكِ , وقد طَرَحَت الآياتُ المذكورةِ بأنَّ محلَّ ذلكَ : القلبُ لا الدِّماغُ .
19ـ وبُيِّنَ في آياتٍ كثيرةٍ أنَّ الذي يُدرِكُ الخطرَ فَيَخافُ مِنهُ (43) ؛ هو : القلبُ الذي هو محلُّ العقلِ لا الدِّماغ , كقولِهِ تَعالَى : ? وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ? الآيَةُ (44) . وقَولُهُ تَعالَى : ? قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ? (45) وإنْ كان الخوفُ تَظهَرُ آثارُهُ على الإنسانِ .
20ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ ? الآيَةُ (46) ولم يقل : ( ونطبعُ على أَدمِغَتِهِم ) .
21ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ? الآيَةُ (47) .
22ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ? الآيَةُ (48) والآيَتانِ المذكورتانِ فيهما الدَّلالةُ على أنَّ محلَّ إدراكِ الخطرِ الْمُسَبِّبِ للخَوفِ هو القلبُ ¬ كما ترى ¬ لا الدِّماغُ .
والآياتُ الواردَةُ في الطَّبعِ على القُلوبِ مُتعدِّدةٌ :
23ـ كَقَولِهِ تَبارَكَ وَتَعالَى : ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ : آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ؛ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ? الآيَةُ (49) ولم يَقُل : ( فطبعَ على أَدمِغَتِهِم ) .
24ـ وَكَقَولِهِ تَعالَى : ? رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ (50) وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ? الآيَةُ (51) ولم يَقُل : ( على أَدمِغَتِهِم ) .
25ـ وَكَقَولِهِ تَعالَى : ? إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ? الآيَةُ (52) و(الطُّمَأْنِينَةُ بِالإِيمانِ) إِنَّما تَحصُلُ بإدراكِ فَضلِ [ الإِيمانِ ] (53) وحُسنِ نَتائِجِهِ وعَواقِبِهِ ، وقد صرَّحَ في هذهِ الآيةِ { صَفْحَة : 4 } بإسنادِ ذلكَ الاطْمِئنانِ إلَى القَلبِ الذي هو محلُّ العقلِ الذي هو أداةُ النَّفسِ إلَى الإدراكِ . ولم يَقُل : ( ودماغُهُ مُطمَئِنٌ بالإيمانِ ) .
26ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? قَالَتِ الأَعْرَابُ : آمَنَّا . قُل : لَّمْ تُؤْمِنُوا ، وَلَكِن قُولُوا : أَسْلَمْنَا ، وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ? (54) ولم يَقُل : ( في أَدمِغَتِهِم ) .
27ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ? (55) ، فقولُهُ تَعالَى : ? وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ? , وَقَولُهُ : ? كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ? صريحٌ في أَنَّ المحلَّ [ الذي ] (56) يدخُلُهُ الإيمانُ في المؤمِنِ ويَنتَفِي عنهُ دُخولُه في الكُفرِ : إنَّما هو القلبُ لا الدِّماغُ . وأساسُ الإيمانُ : إيمانُ القلبِ ؛ لأنَّ الجوارحَ كُلَّها تَبَعَ لهُ ؛ كما قالَ صَلَّى الله عَليهِ وآلِهِ وَسَلِّم : « أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ : صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . وَإِذَا فَسَدَتْ : فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ » (57) .
فظهرَ بذلكَ دِلالةُ الآيَتَينِ المذكورتَينِ على : أنَّ المصدرَ الأولَ للإيمانِ القلبُ ، فإذا آمَنَ القلبُ آمَنَت الجوارحُ بِفِعلِ المأموراتِ وتركِ المنهِيَّاتِ ؛ لأنَّ القلبَ أميرُ البَدَنِ , وذلك يدلُّ دِلالةً واضِحَةً على : أنَّ القلبَ ما كانَ كذلكَ إلاَّ لأنَّهُ محلُّ العقلِ الذي بهِ الإدراكُ والفَهمُ ¬ كَمَا تَرَى ¬ .
28ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ? الآيَةُ (58) فأسندَ الإثمَ بِكَتمِ الشَّهادةِ للقلبِ ولم يُسنِدْهُ للدِّماغِ ، وذلك يدلُّ على أنَّ كتمَ الشَّهادةِ ¬ الذي هو سببُ الإثمِ ¬ واقعٌ عن عَمدٍ ، و أَنَّ محلَّ ذلكَ العَمْدُ : القلبُ ؛ وذلكَ لأنَّه محلُّ العقلِ الذي يحصُلُ بهِ الإدراكُ وقصدُ الطَّاعَةِ وقَصدُ المعصِيةِ كما تَرى .
29ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ ¬ في حفصةَ وعائشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ¬ : ? إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ : فَقَدْ صَغَتْ (59) قُلُوبُكُمَا ? (60) أَي : إنْ مالَت قُلوبُكُما إلَى أمرٍ تَعلَمان أنَّه صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكرَهُهُ , سواءٌ قُلنا :
1 : إِنَّهُ تحريمُ شُربِ العَسَلِ الذي كانَت تَسقِيهِ إيّاهُ إحدَى نِسائِهِ (61) .
2 : أو قُلْنا : إنَّهُ تحريمُ جارِيتَهُ مارِيةَ (62) .
فقولُهُ تَعالى : ? صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ? أَي مالَت ، يدلُّ على أنَّ الإدراكَ وقصدُ الميلِ المذكورِ محلُّهُ : القلبُ . ولو كان الدِّماغُ لقالَ : ( فقد صَغَتَ أدمِغَتُكُما ) كما ترى .
ولما ذكرَ كلٌّ منَ اليهودِ والمشركينَ أنَّ محلَّ عقولِهم هو قلوبُهُم ، قَرَّرَهُم اللهُ على ذلكَ ؛ لأنَّ كونَ القلبِ محلُّ العقلِ هوَ حقٌّ , وأَبطلَ دَعواهُم مِن جهةٍ أُخرى ، وذلكَ يَدلُّ بإيضاحٍ على أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ .
30ـ أما اليهودُ ¬ لعنَهُم اللهُ ¬ :
فقد ذكر اللهُ ذلك عنهم في قولِهَِ : ? وَقَالُواْ : قُلُوبُنَا غُلْفٌ ? (63) , فقالَ تعالى : ? بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ { صَفْحَة : 5 } ? (64) فقولُهم : ? قُلُوبُنَا غُلْفٌ ? [ (غلف) فيها قِراءتانِ ] (65) :
1 : (غُلْفٌ) بسكونِ الَّلامِ (66) ؛ يعنونَ : أَنَّ عليها غِلافاً ¬ أي : غِشاءً ¬ يَمْنَعُها مِن فهمِ ما تَقولُ .
فقرَّرَهُم اللهُ تَعالَى على : أَنَّ قلوبَهم هيَ محلُّ الفَهمِ والإدراكِ ؛ لأنَّها محلُّ العقلِ ، ولكن كَذَّبَهم في ادِّعائِهم أَنَّ عليها غِلافاً مانِعاً مِن الفَهمِ , فقالَ ¬ على سبيلِ الإضْرابِ الإبْطالِي (67) ¬ : ? بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ? .
2 : وأمَّا على قِراءَةِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما : ( قُلُوبُنا غُلُفْ ) بِضَمَّتَين ؛ يَعنونَ : أنَّ قُلوبَهم كأنَّها غِلافٌ مَحْشُوٌّ بِالعُلومِ والمعارِفِ فلا حاجَةَ إلَى ما تَدعونَنا إليهِ .
وذلكَ يدلُّ على عِلمِهِم بأَنَّ محلَّ العلمِ والفَهمِ : القُلوبَ لا الأدمِغَةَ .
31ـ وأمَّا المشركونَ :
فقد ذكرَ اللهُ ذلكَ عنهُم في قولِهِ : ? وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ? الآيَةُ (68) فكانوا عالِمِين بأنَّ محلَّ العقلِ : القلبُ , ولذا قالوا : ? قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ? ولم يَقولُوا : ( أدمِغَتِنا في أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ) , والله لم يُكَذِّبْهُم في ذلكَ ولكنَّهُ وَبَّخَهُم على كُفرِهِم بِقولِهِ : ? قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ? الآيَةُ (69) وهذه الآياتِ التي أُطلِقَ فيها القلبُ مراداً بهِ العقلُ ؛ لأنَّ القلبَ هو محلُّهُ , أوضحَ اللهُ المرادَ منها بقولِهِ : ? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ? الآيَةُ (70) فصَرَّحَ : بأَنَّهم يَعقِلونَ بالقلوبِ ، وهو يدلُّ على أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ دلالةً لا مطعنَ فيها كما ترى .
32ـ وقالَ اللهُ تعالَى : ? فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ? (71) ولم يَقُل : ( يختمُ على دِماغِكَ ) .
33ـ وقالَ تَعالى : ? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ? (72) ولم يقُلْ : ( خَتَمَ على أدمِغَتِكُم ) .
34ـ وقالَ تعالى في سُوْرَةُ النَّحلِ : ? أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ? (73) ، وقالَ تعالَى : ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ? الآيَةُ (74) ولم يَقُل : ( امْتَحَنَ أَدمِغَتَهُم ) .
35ـ وقالَ تَعالَى : ? وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ? الآيَةُ (75) والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ ؛ ولِنَكْتَفِ مِنْها بما ذَكَرْناهُ خَشيَةَ الإطالَةِ الْمُمِلَّةِ .
• وأَمَّا الأَحاديثُ الْمُطابِقَةُ لِلآياتِ التي ذَكَرناها والدَّالَّةِ على أَنَّ مَحَلَّ العَقلِ القَلبُ فهِيَ كَثيرةٌ جِدّاً :
كالحديثِ الصَّحيحِ والذي فيهِ : « أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ : صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . وَإِذَا فَسَدَتْ : فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ » (76) ولم يقل فيه : ( أَلا وَهِي الدِّماغُ ) .
وكقولِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ : « يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ » . قَالَ : فَقُلْنَا ! يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : فَقَالَ : « نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا » (77) ولم يقلْ : ( يا مُقَلِّبَ الأدمِغَةَ ثَبِّتْ دِماغِي على دِينِكَ ) .
وكقولِهِ صَلَّى الله عَليهِ وَسَلِّم : « قَلْبُ المؤْمِنِ بَينَ إصْبَعَينِ مِنْ أَصابِعِ الرَّحمنِ » (78) وهو مِن أحاديثِ الصِّفاتِ { صَفْحَة : 6 }، ولم يقل : دِماغُ المؤمن … إلخ .
والأحاديثُ بِمثِلِ هذا كثيرةٌ جِدّا فلا نُطيلُ بها الكلامَ .
[ الخُلاصَةُ ]
وقد تَبَيَّنَ ممَّا ذَكَرنا : أَنَّ خالِقَ العَقلِ وواهِبَهُ للإنسانِ بَيَّنَ في آياتٍ قُرآنِيّةٍ كَثيرةٍ أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ , وخالِقُهُ أعلمُ بمكانِهِ مِن كَفَرَةِ الفَلاسِفَةِ .
وكذلكَ رسولُ اللهِ صَلَّى الله عَليهِ وآلِهِ وَسَلِّم ¬ كما رَأَيتَ ¬ .
أمَّا عامَّةُ الفَلاسِفَةِ ¬ إلاَّ القليلُ النَّادِرِ مِنهُم ¬ فإنَّهم يَقولونَ : أَنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ .
وشذَّت طائفةٌ مِن مُتأخِّريهم : فزَعَموا أنَّ العَقلَ ليسَ لهُ مَركَزٌ مَكانِيٌّ في الإنسانِ أَصلاً ؛ وإنَّما هو زَمانِيٌّ مَحضٌ لا مَكانَ لهُ .
وقولُ هؤلاءِ أَظهَرُ سُقوطاً مِن أنْ يُشْتَغَلُ بِالكَلامِ عَلَيهِ .
ومِن أشهرِ الأَدلَّةِ التي يَستَدِلُّ بها القائلونَ مِنْ أنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ ؛ هو : أنَّ كلَّ شيءٍ يُؤثِّرُ في الدِّماغِ يُؤثِّرُ في العقلِ .
ونحنُ لا نُنكِرُ أنَّ العقلَ قد يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ ؛ ولكن نَقولُ بِموجِبِهِ , فنقولُ : سَلَّمنا أنَّ العقلَ قد يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ ، ولكن لا نُسَلِّمُ أنَّ ذلكَ يَستَلزِمُ أنَّ محلَّهُ الدِّماغُ :
فَكَم مِن عُضوٍ مِن أعضاءٍ الإنسانِ خارِجٌ عَنِ الدِّماغِ ¬ بلا نِزاعٍ ¬ وهوَ يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ كما هوَ معلومٌ .
وكَم مِن شَلَلٍ في بعضِ أعضاءِ الإنسانِ ناشِئٌ عَن اختلالٍ واقِعٍ في الدِّماغِ .
فالعقلُ خارِجٌ عَن الدِّماغِ ؛ ولكنَّ سَلامَتَهُ مَشروطَةٌ بِسلامَةِ الدِّماغِ ؛ كالأعضاءِ التي تختلُّ باختِلالِ الدِّماغِ ؛ فإنَّها خارِجَةٌ عنهُ معَ أنَّ سلامَتَها مَشروطٌ فيها سلامَةُ الدِّماغِ ¬ كما هوَ معروفٌ ¬ .
وإظهارُ حُجَّةَ هؤلاءِ والرَّدُّ عليها على الوجهِ المعروفِ في (آدابِ البحثِ والمناظرةِ) :
أنَّ حاصِلَ دليلِهم : أنهم يستدلون بـ(قياسٍ منطقيٍّ) من الشرطِ المتَّصلِ المركَّبِ من : شَرطِيَّةٍ مُتَّصِلَةٍ لُزومِيَّةٍ واستِثنائِيَّة يَستَثنونَ فيهِ نَقيضَ التَّالِي فينتجُ لهم ¬ في زعمِهم ¬ دعواهُم المذكورَةُ والتي هي نَقيضُ المقدَّمِ .
وصورَتُهُ : أنَّهم يقولونَ : ( لو لم يكُن العقلُ في الدِّماغِ لَما تَأَثَّرَ بِكُلِّ مُؤثِّرٍ على الدِّماغِ ، لكنَّهُ يَتَأَثَّرُ بِكُلِّ مُؤَثِّرٍ على الدِّماغِ . فَيَنتُجُ : أَنَّ العقلَ في الدِّماغِ ) .
وهذا الاستدلالُ مردودٌ بالنَّقضِ التَّفصيليِّ الذي هوَ المنعُ ؛ وذلك : بِمَنعِ كُبْراهُ التي هيَ شَرطِيَّتُهُ ؛ فنقولُ :
المانِعُ : مَنعُ قولِكَ : (لو لم يكُن العقلُ في الدِّماغِ لَما تَأَثَّرَ بِكُلِّ مُؤثِّرٍ علي الدِّماغِ) بل هو خارِجٌ عَن الدِّماغِ ، معَ أَنَّهُ يتأثَّرُ بكلِّ مؤثِّرٍ على الدِّماغِ كغيرِهِ مِنَ الأعضاءِ التي تتأثَّرُ بِتأثّرِ الدِّماغِ . فالرَّابطُ بينَ التَّاليِ والمقدّم غَيرُ صحيحٍ ، والمحلُّ الذي يَتوارَدُ عليهِ { صَفْحَة : 7 } الصِّدقُ والكذِبُ في الشَّرطِيَّةِ إنَّما هو الرَّابِطُ بين مُقَدِّمِها وتاليها , فإنْ لم يكُن الرَّبطُ صَحيحاً كانَت كاذِبِةً , والرَّبطُ في قَضِيتِهم المذكورةِ : كاذِبٌ , فظهرَ بُطلانُ دَعواهُم .
وهناكَ طائفةٌ ثالثةٌ : أرادت أنْ تجمعَ بينَ القولين ؛ فقالتْ : إنَّ ما دَلَّ عليه الوحي مِن كونِ محلِّ العقلِ هو القلبُ صحيحٌ , وما يقولُه الفلاسفةُ ومَن وافَقهُم من أنَّ محلَّهُ الدِّماغُ صحيحٌ أيضاً , فلا منافاةَ بينَ القولَين .
قالُوا : ووجهُ الجَمعِ أنَّ العقلَ في القَلبِ ¬ كما فِي القُرآنِ والسَّنة ¬ ، ولكنَّ نُورُهُ يَتَصاعَدُ مِنْ القَلبِ فيتَّصِلُ بِالدِّماغِ ، وبواسطةِ اتِّصالِهِ بالدِّماغِ يَصدُقُ عليهِ أنَّهُ في الدِّماغِ من غيرِ مُنافاةٍ لكونِ محلِّهِ هو القلبُ .
قالُوا : وبهذا يندَفِعُ التَّعارُضُ بَيْنَ النَّظرِ العَقلي ¬ الذي زعمَهُ الفلاسفةُ ¬ وبَينَ الوَحي .
واستدلَّ بعضُهم لهذا الجمعِ بـ(الاستقراءِ غَيرِ التَّامِّ) وهوَ المعروفُ في الأصولِ بـ(الإِلحاقِ بالغالبِ) وهو حُجَّة ظنِّيَّةٌ عِندَ جماعةٍ مِنَ الأصوليينَ ، وإليه أشارَ صاحبُ (مراقي السُّعودِ) في كتابِ الاستدلالِ (79) ، في الكلامِ على أقسامِ الاستقراء بقوله :
وَهْوَ لَدَىَ البَعْضُ إِلَى الظَّنِّ انْتَسَبَ يُسْمَى لُحُوْقَ الفَرْدِ بِالَّذِيْ غَلَبْ
ومعلومٌ أنَّ (الاستقراءَ) هوَ : تَتَبّعُ الأفرادِ حتى يغلبَ على ظنِّهِ أنَّ ذلكَ الحكمَ مُطَّرِدُ فِي جميعِ الأَفرادِ .
وإيضاحُ هذا : أنَّ القائلينَ بالجمعِ المذكورِ بين الوحيَ وأقوالَ أهلِ الفلسفَةِ في محلِّ العقلِ ؛ قالت جماعةٌ منهُم : دليلُنا على هذا الجمعِ الاستقراءُ غيرُ التَّامِّ , وذلك أنَّهم قالوا : تتبَّعنا أفرادَ الإنسانِ الطَّويلِ العُنُقِ طُولاً مُفرِطاً زائِداً على المعهودِ زِيادَةً بَيِّنَةً ؛ فوجَدنا كلَّ طويلِ العُنُقِ طُولاً مُفرِطاً ناقِصَ العَقلِ ؛ وذلك لأنَّ طولَ [ العُنُق ] (80) طولاً مُفرِطاً يلزمُهُ بُعدَ المسافةِ بينَ طريقِ نُورِ العقلِ الكائنِ في القلبِ وبينَ المتصاعِدِ منهُ إلى الدِّماغِ , وبُعدُ المسافةِ بينَ طَرَفيهِ قد يُؤدِّي إلى عدمِ تماسُكِه واجتماعِه فيظهرُ فيه النَّقصُ .
وهذا الدَّليلُ ¬ كما ترى ¬ ليسَ فيه مقنَعٌ وإنْ كان يُشاهَدُ مِثلَهُ في الخارِجِ كَثيراً .
? فتَحصَّل مِنْ هذا :
أنَّ الذي يقولُ : ( أنَّ العقلَ في الدِّماغِ وحدَهُ وليسَ في القلبِ منهُ شيءٌ ) أنَّ قولَهُ في غايةِ البُطلانِ ؛ لأنَّهُ مُكَذِّبٌ لآياتٍ وأحاديثَ كثيرةٍ جدّاً ¬ كما ذَكَرنا بعضَهُ ¬ .
وهذا القولُ لا يتجرّأُ عليهِ مسلمٌ إلاَّ إن كانَ لا يُؤمِنُ بكتابِ اللهِ ولا بِسُنَّةِ رسولِهِ ( ؛ وهوَ إنْ كانَ كذلكَ : فَلَيسَ بمسلمٍ { صَفْحَة : 8 } .
ومَنْ قالَ : ( إنَّهُ في القلبِ وحدَهُ وليسَ في الدِّماغِ منهُ شيءٌ ) فقولُهُ هو ظاهِرُ كتابِ الله وسُنَّةِ رسولِهِ ( ، ولم يقُم دليلٌ جازمٌ قاطعٌ مِن نَقلٍ ولا عقلٍ على خِلافِهِ .
ومَنْ جمعَ بينَ القولينِ ؛ فقولُهُ : جائزٌ عَقلاً ، ولا تكذيبَ فيهِ للكتابِ ولا للسّنّةِ ، ولكنَّهُ يحتاجُ إلى دليلٍ يجبُ الرُّجوعُ إليهِ ؛ ولا دليلَ عليهِ منَ النَّقلِ ؛ فإنْ قامَ عليهِ دليلٌ مِن عقلٍ أو استقراءٍ محتجٌّ بهِ فلا مانِعَ مِنْ قَبولِه . والعلمُ عندَ الله .
وهذا ما يَتَعَلَّقُ بِالمسأَلَةِ الأُولَى
منقول للفائدة
محمدالجزائري- عضو برونزي
- عدد المساهمات : 172
تاريخ التسجيل : 10/10/2011
ريانية العود- إدارة
- عدد المساهمات : 17871
تاريخ التسجيل : 15/01/2011
الموقع : قلب قطر
رد: محلُّ العقلِ في الانسان
مشكورة أختي المحترمة على مرورك الهداف والبناء كما أني أكن لك كل الإحترام والتقدير سلفا وسؤالك وجيه سوف أرد عليه بعد التأكد من الفرق الثلاثي إذصح التعبير {ماالفرق بين القلب والعقل والفؤاد؟}
محمدالجزائري- عضو برونزي
- عدد المساهمات : 172
تاريخ التسجيل : 10/10/2011
رد: محلُّ العقلِ في الانسان
شكرا لك على هذا الطرح
جزاك الله كل الخير
جزاك الله كل الخير
عادل لطفي- إدارة
- عدد المساهمات : 7724
تاريخ التسجيل : 15/01/2011
مواضيع مماثلة
» كم هو صعب على الانسان....
» عجائب جسم الانسان
» أجمل دمعة في حياة الانسان
» الانسان يشبه قلم الرصاص..
» الانسان قبل وبعد الحب
» عجائب جسم الانسان
» أجمل دمعة في حياة الانسان
» الانسان يشبه قلم الرصاص..
» الانسان قبل وبعد الحب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الخميس يونيو 20, 2024 12:29 pm من طرف azzouzekadi
» لحدود ( المقدرة شرعاً )
الثلاثاء يوليو 04, 2023 1:42 pm من طرف azzouzekadi
» يؤدي المصلون الوهرانيون الجمعة القادم صلاتهم في جامع عبد الحميد بن باديس
الأحد ديسمبر 15, 2019 10:06 pm من طرف azzouzekadi
» لا اله الا الله
الأحد يناير 28, 2018 7:51 pm من طرف azzouzekadi
» قصص للأطفال عن الثورة الجزائرية. بقلم داؤود محمد
الثلاثاء يناير 31, 2017 11:52 pm من طرف azzouzekadi
» عيدكم مبارك
الإثنين سبتمبر 12, 2016 11:14 pm من طرف azzouzekadi
» تويتر تساعد الجدد في اختياراتهم
السبت فبراير 06, 2016 3:47 pm من طرف azzouzekadi
» لاتغمض عينيك عند السجود
السبت يناير 30, 2016 10:52 pm من طرف azzouzekadi
» مباراة بين لاعبي ريال مدريد ضد 100 طفل صيني
الخميس يناير 14, 2016 11:18 pm من طرف azzouzekadi