رمضان في تركيا.. الأتراك يستقبلون سلطان الأحد عشر شهراً قبل أسابيع من قدومه

"سلطان الاحد عشر شهرا" هذه المقولة تعبر عن مقدار المحبة والفرح والاحترام الذي يكنه الشعب التركي لشهر رمضان المبارك ويستقبله كضيف عزيز وبمقدور المرء رؤية الفرحة العارمة في وجوه جميع اطياف الشعب عند استقباله.
يبدأ الشعب التركي بالتحضير لهذا الشهر الكريم قبل ايام بل قبل اسابيع من قدومه. وما ان تدخل الاشهر الحرم حتى تهيمن على الشعب حالة روحية مطمئنة ومع اقتراب شهر رمضان المبارك يكون الجميع قد أعد نفسه لطلب المغفرة والرحمة في جو روحاني وفرح وخشوع يحس المرء به في البيوت والجوامع.
يولي الأتراك أهمية بالغة لشهر رمضان المبارك وتكون الأزقة والشوارع خلاله خالية من الناس عند الافطار لأن الجميع يكونوا مجتمعين على مائدة الافطار المليئة بأنواع الاطعمة الشهية وبين الحين والآخر تتم دعوة الاقارب والاحبة للافطار معا بفرح وراحة نفسية واطمئنان لادائهم واجباتهم الدينية. ويقوم بعض الاشخاص والمؤسسات بتقديم دعوات افطار جماعية لمجموعات كبيرة مما يؤدي الى زيادة الاحاسيس الاخوية والصداقة بينهم. وتقوم دوائر البلديات في المدن، خاصة في هذه السنين الاخيرة بنصب خيم افطار كبيرة للمواطنين عامة. حيث يتم نصبها في الميادين العامة للمدن. وتقدم طعام الافطار للآلاف من الناس وبعد الانتهاء من الافطار يجري تقديم فعاليات اجتماعية متنوعة لهم. ويقوم رجال الدين بالقاء المحاضرات او تقوم فرقة موسيقية بتقديم عروضها للجماهير او عروض خاصة للاطفال كالمهرجين والاراجوز وحكايات ونكات نصرالدين خوجة وغيرها.
خلال صلاة التراويح تمتلئ الجوامع بالمصلين رجالا ونساء جالبين معهم اطفالهم وكأنهم ازهار جميلة يستمعون الى تلاوات من المصحف الشريف من قبل القراء المعروفين بأصواتهم وتلاواتهم الجميلة ليزدادوا خشوعا. ويُقرأ القرآن في البيوت كما يقرأ في المساجد. والجوامع والمساجد هي أفضل الاماكن التي يستنشق المرء فيها جو رمضان المبارك بكل وقار. حيث تمتلئ بالناس طوال اليوم سواء داخلها ام في حدائقها او بالقرب منها وبعد سماع أذان المغرب يبدأ الافطار ثم صلاة المغرب والتراويح، بعدها يعودون الى منازلهم.
في اسطنبول يجتمع الناس عادة في جامع السلطان احمد وجامع الصحابي ابو ايوب الانصاري، وفي انقرة قرب مسجد حاج بايرام، اما في بورصة فالجامع الكبير وفي أدرنة جامع سليمية. وتنظم قرب هذه الجوامع وغيرها فعاليات رمضانية، حيث تقام معارض للكتب الدينية في اروقة الجوامع طوال شهر رمضان. كما تتم اضاءة المآذن حيث تبقى مضاءة طوال ليالي رمضان، ويقولون في تركيا ان هذه الاضاءة ليست للمنطقة فقط بل لاضاءة القلوب ايضا. يتم تعليق كتابات واقوال او جمل قصيرة معبرة تكتب بمصابيح تعلق بين مئذنتين (تسمى محيا) في المساجد التي لها مئذنتان او اكثر. حيث يمكن قراءتها من مسافات بعيدة. وتعطي هذه الاضاءات والمصابيح للجوامع جمالا ومهابة جديدة.
تقوم كافة محطات الاذاعة والتلفزيون ببث برامج خاصة في ساعات الافطار وساعات السحور تتابع من قبل المشاهدين بشوق ولهفة. ويقوم البعض منها بالنقل المباشر من المساجد الكبيرة ونقل الاحتفالات والمراسم الدينية التي تجري في الأقطار الاسلامية الأخرى. ويصل الخشوع الذي تعيشه تركيا خلال شهر رمضان المبارك الى ذروته في ليلة القدر المباركة، حيث تمتلئ المساجد داخلها وخارجها بالمتعبدين. ويقضي المؤمنون هذه الليلة بالعبادة والدعاء للاستفادة من بركة ليلة نزول المصحف الشريف التي تطهر الارواح والقلوب. وكما هو الحال في بقاع العالم الاسلامي يقوم الاغنياء والشخصيات المعروفة باداء الزكاة والفطرة في هذا الشهر الكريم لتغطية احتياجات الفقراء ونشر البهجة والفرح في قلوبهم وتقوية المشاعر الاخوية معهم.
ويستمر الجو الرمضاني المشحون بالزهد والتقوى الى ان يحل العيد، وتمتلئ المساجد مرة اخرى لاداء صلاة العيد وبعد الصلاة يقوم المسلمون بتهنئة بعضهم البعض داخل المساجد بهذه المناسبة السعيدة تبدأ بعدها زيارات الأقارب والمعارف والأصدقاء. ومن العادات المهمة في هذه المناسبة تقديم المساعدات للفقراء ومصالحة المتخاصمين وتجري أيضاً زيارة المقابر وقراءة القرآن الكريم والدعاء على ارواح الاموات.
وباختصار فان المرء يشهد خلال شهر رمضان بصورة خاصة كافة مظاهر التقوى والايمان والاسلام بأجلى صوره في كل شبر من أرجاء تركيا المسلمة حتى لو كان الدستور يتحدث عن العلمانية في النظام، وبعبارة أخرى فالعلمانية في تركيا لم تعد حائلاً بوجه الحياة الدينية والمعتقدات للمواطنين.
رمضانيات اسطنبول:
اسطنبول، قلب تركيا النابض، تلك المدينة التي تعيش فيها العادات والتقاليد بكل دقائقها، ويقال إن من يعرف اسطنبول يعرف تركيا كلها. ولكي يعرف المرء التقاليد الرمضانية في تركيا عليه ان يتعرف على التقاليد الرمضانية القديمة، وان يفهم الروح المعنوية لها لذا وجب القاء نظرة على رمضانات اسطنبول القديمة لان المرء لا يستطيع فهم الحاضر دون الرجوع الى الماضي.
كان لرمضانات اسطنبول طعم آخر كما لباقي مناطق تركيا. لم تكن الحياة في اسطنبول تعبر عن الطابع الديني فقط، بل بالامكان مشاهدة تأثيرها على الحياة الاجتماعية والثقافية وجميع المجالات الأخرى وكذلك بالامكان مشاهدتها في ألوان الطعام والشراب والقراءة والاستراحة والتعليم وحتى التنزه واللهو. كان لهذا أثره على جميع طبقات المجتمع في ارجاء الامبراطورية العثمانية غنيها وفقيرها، ومن المسلمين الى غير المسلمين.
جميع شرائح المجتمع كان يتوق لقدوم شهر رمضان المبارك وبانتظار قدومه منذ اليوم الاول من رجب، حيث تبدأ أضاءة الجوامع والمآذن والأزقة وكأنها تعلن عن قدوم رمضان للاستعداد له. يبدأ التحضير لرمضان نفسيا بادئ الأمر وتساهم الليالي المقدسة في استكمال هذه التحضيرات. بعد ذلك تبدأ التحضيرات المادية ومن ضمنها القيام بحملة تنظيف للمساكن والأزقة والاسواق والمساجد والمزارات والمقابر.
احد مظاهر الاستعداد لشهر رمضان هو التسوق، كما هو الحال في يومنا هذا حيث تكون هناك حركة تسوق كبيرة. ولا ينسى الناس الفقراء والمحتاجين ويقدمون لهم المساعدات. وكان رمضان يسبغ الخير والبركة على الاغنياء والفقراء والاطفال بل وحتى الكهول.
اسطنبول القديمة كانت عادة تعيش في النهار ويسودها الهدوء والسكينة ليلا. وعلى الذين يضطرون الى الخروج ليلا لسبب طارئ مثلا حمل المصابيح معهم. وما ان يهل شهر رمضان حتى تتغير حياة المدينة بخصوصيتها الروحية والمادية، حيث تتحول بعض المهن اليومية للعمل ليلا وتتم اضاءة الأزقة وتذهب العائلات نساء ورجالا واطفالا بعد الافطار الى المساجد لاداء صلاة التراويح وبعد الصلاة يذهب الجميع لمتابعة الفعاليات والاستعراضات الرمضانية التي كانت تقام في اماكن معينة من المدينة.
كان من اهم احداث شهر رمضان الكتابات التي كانت تكتب بالقناديل (المحيا) بين مئذنتين في المساجد التي لها مئذنتان او اكثر، هذه الكتابات التي تكتب في يومنا هذا بالكهرباء كانت تكتب آنذاك بالقناديل وكانت مهنة الكتابة مهنة صعبة جدا. مازالت هذه الكتابات (المحيا) جميلة في يومنا هذا، ولكنها كانت سابقاً مظهراً مؤثراً وجذاباً، خاصة عندما ترقد المدينة في ظلام دامس تتلألأ القناديل فيها كالنجوم.
رمضان اسطنبول كان مفعما بالخشوع والعبادة يحس المرء وكأنه اقرب ما يكون للآخرة من اي وقت آخر. فهو شهر الصيام وشهر الغفران فالصيام والسحور والافطار والتراويح والزيارات كلها عناصر مهمة بهذا الشهر الفضيل.
كان الكثير من السياح الذين يزورون اسطنبول ينقلون مشاهداتهم وكيف ان المساجد لم تكن تسع الأعداد الغفيرة من المصلين. في النهار كانت المزارات وما تزال وفي مقدمتها ضريح الصحابي الكبير ابو ايوب الانصاري تعج بالناس وكذلك المساجد في الليل، خاصة في صلاة التراويح، وابواب المساجد تبقى مفتوحة حتى الصباح في رمضان على خلاف العادة. وكان البعض من المسلمين يعتكفون في المساجد ليتعبدوا داخلها.









م ن



ريانية

مشكورة على الموضوع