المواضيع الأخيرة
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
ريانية العود | ||||
عادل لطفي | ||||
عذب الكلام | ||||
zineb | ||||
azzouzekadi | ||||
بريق الكلمة | ||||
TARKANO | ||||
ليليان عبد الصمد | ||||
ام الفداء | ||||
السنديانة |
بحـث
.ft11 {FONT-SIZE: 12px; COLOR: #ff0000; FONT-FAMILY: Tahoma,Verdana, Arial, Helvetica; BACKGROUND-COLOR: #eeffff}
.IslamicData
{ font-family: Tahoma, Verdana, Arial, Helvetica, sans-serif;
font-size: 10pt; font-style: normal; line-height: normal; font-weight:
normal; font-variant: normal; color: #000000; text-decoration: none}
الساعة
عدد زوار المنتدى
شجرة التوت... حسين عبد الكريم...رواية
صفحة 1 من اصل 1
شجرة التوت... حسين عبد الكريم...رواية
الفصل الأول
في طفولتي رأيت شجرة التوت البرية تمشي باتجاه بيتنا الترابي المخلع، وباتجاه كل البيوت، ورأيتها تلم الجيران تحت أغصانها، ورأيت صاحبها أبا يوسف رجل القرية العتيق، وسمعته يحكي حكايات طيبة عن العيش والأيام، وسمعته يغني أغنيات: تشبه برد الصيف ورنين أصوات المراعي.
في يوم من أيام المدرسة، ونحن نهم بالسير عبر الدرب المؤدي إلى المدرسة، استوقفتنا شجرة التوت... واستوقفنا صوت أبي يوسف وهو يحكي لابن الأحمد وابن الصبرة وابن الصالح:
-هل سافرت يا ابن الأحمد إلى تركيا؟
-لا... لم أسافر...
-وأنت يا ابن الصبرة هل سافرت إلى تركيا؟؟
-لا... لم أسافر...
-أنا سافرت سيراً على قدمي إلى استانبول...
-وكم يوماً بقيت حتى وصلت؟
-سبعة أيام بلياليها... وقبل هذه السفرة سافرت إلى بلاد بعيدة.
أحببنا أنا وسلمان ولد ابن يوسف بو حمود وسمر بنت ابن الأحمد أن نقترب أكثر من شجرة التوت من صوت أبي يوسف وملامحه...
وقفنا خلف حفاف أرض شجرة التوت واحتمينا بشجرة الزنزلخت المجاورة للدرب خوفاً من أن يمنعنا ابن الصبرة أو ابن الأحمد أو سواهما من أن نسمع حكايات أبي يوسف... رغم أننا لم نمسك بجذع شجرة التوت، ورغم المسافة القصيرة التي بقيت تفصلنا عن أبي يوسف والمصطبة والجالسين عليها، بلغت أعماقنا رائحة أوراق التوتة، وسمعنا جيداً حديث أبي يوسف مع ابن الأحمد وابن الصبرة وابن الصالح،وعاينّا ملامحهم:
سأل ابن الصبرة:
-وكم بقيت يا أبا يوسف في استانبول؟
-بقيت أقل من سنة... كنت لا أنسى شجرة التوت وعشرتها وكأنها معي... وكنت أخاف عليها من اليباس أو العطش...
لم يتم أبو يوسف حديثه، لأن صوت أم يوسف قطع عليه وعلى الجالسين الحديث...
-في عمرك كله لم تترك عادتك... جمعت بيضات الدجاجات كلها، ووضعتها بالسلة، وأخذتها إلى الدكان ورجعت وأنت على المصطبة وابن الصبرة وابن الصالح وابن الأحمد عندك،وحديثكم لم ينته، ودخان سيكاراتكم لا ينقطع، وكأن الدنيا ما فيها إلا شجرة التوتة والمصطبة وشرب الدخان والأحاديث...
شاهدنا- نحن أولاد المدرسة –أمّ يوسف من بعيد واختبأنا في جهة من جهات أرض ابن الحمودة المجاورة لأرض شجرة التوت هرباً من كلماتها القاسية.
قال سلمان ولد يوسف بوحمود:
سلة أم يوسف مملوءة بالأكياس:
ردّت عليه سمر بنت ابن الأحمد:
تكون أعطت البيضات لصاحب الدكان، وأخذت منه حاجات للبيت. بقيت سمر منتبهة إلى مشية أم يوسف المتمهلة جداً، ومنديلها الملفوف على رأسها بإتقان، وشفتيها المتوترتين، حتى يظن من يراهما أنهما تستعدان للبصاق أو لقبلة حربية.
قالت سمر: أم يوسف دائماً تمشي على مهلها، ودائماً لا تضحك لأحد، حتى لأبي يوسف...
قبل أن تصل أم يوسف بادرها ابن الصالح بالحديث:
كنت تبيعين البيضات، وماذا أحضرت معك من الدكان؟
-زادت أم يوسف زم شفتيها وكأن القنبلة الموقوتة تكاد تنفجر...
-أبو يوسف أنهى لف لفافة التبغ في يده، وأشعلها ومسح وجهه بكفيه، وعاد إلى جذع التوتة ومسحه بكفيه، وراح يعاين أغصانها وشكل أوراقها والعصافير المنتشرة في جهاتها، ونسي أن يلتفت إلى جهة الشمال حيث وقفت أمّ يوسف وراحت تبحث عن بيضات الدجاجات وعن الأفراخ... التي لم تستقلّ بعد عن الدجاجات الكبيرة التي فقستها...
بعد أن أنهت أم يوسف جولتها التفقدية وتأكدت من أن بعض البيضات غير موجودة في الأعشاش المخصصة للبيض، ازدادت شفتاها توتراً وازدادت مشيتها تمهلاً، قالت لأبي يوسف:
-أنا أعرف أن عادتك لن تغيّرها، الولد الذي تصادفه ستعطيه إما بيضة، وإما تعطيه الفرنكات التي معك...
أخذ أبو يوسف نفساً عميقاً من لفافته، وابتسم ابتسامة هادئة انسربت من كل ملامحه، وقال:
-يا أم يوسف! بعض الدجاجات ما باضت اليوم...
-هذا عذرك الدائم... أنا متعودة على فنونك...
-تعودّي على فنوني، واسقينا الشاي، وستزداد البيضات.
ضحك ابن الصبرة، فبانت تجاعيد وجهه، ومثله ضحك ابن الأحمد، وابن الصالح. مالت أم يوسف ميلة يمنى وميلة يسرى باتجاه عتبة البيت...
حين دخلت طارت بعض الحمامات طيراناً يسيراً وعادت إلى دوحها، وكأنها بذلك ترحب بأم يوسف وتطالبها ببعض حبات القمح...
اتجهت أم يوسف إلى مصطبة البيت، وصعدتها. أخذت الإبريق المعلق بمسمار خاص به في عمود البيت. عمود البيت يتوسط المصطبة الداخلية، وهو معني بحمل الكثير من الأغراض والحاجات، مسمار علق به طبق القش، وآخر علقت به جرة الزيت، وآخر علقت به حقيبة فناجين الشاي، وإلى يسار العمود يستريح /البابور/ والسراج /وعنبر القمح...
أمسكت أم يوسف الإبريق وملأته من الجرة الموجودة على المصطبة في جهتها الشرقية حيث الحائط، وأقبلت على العمود، فأخذت الحقيبة المخصصة للسكر والشاي فغرفت بيدها ما اعتقدت أنه يكفي من الشاي ومن السكر، وانتقلت إلى /البابور/ أشعلته على عجل، ووضعت الإبريق عليه، وانتبهت إلى أفراخ الحمام والحمامات الكبيرة.
أعشاش الحمام كان أكثرها داخل البيت، في طاقات خاصة، وكان بعضها فوق العتبة في صناديق وعلب، وبدراية تعرف أم يوسف كل حمامة من حمامات البيت وتعرف صوتها ولونها. وتعرف إن كانت جائعة... وتعرف الأفراخ معرفة حاذقة، فلا يمكن لا أحد أن يضللها عن الأعشاش أو الأفراخ... ولهذا كانت تنشب بينها وبين أبي يوسف معارك دائمة عندما يذبح بعض الأفراخ، ليشويها ويأكلها، أو ليطعم بعض ضيوفه في غيابها.
انتهت أم يوسف من إعداد الشاي وغليه، وأحضرت الفناجين الكبيرة، وحملتها على طبق من قش وخرجت إلى مصطبة شجرة التوت، حيث جلس أبو يوسف وجيرانه يتجاذبون أطراف الحديث وأحياناً يمزقون الحديث وأطرافه بسبب الخلافات التي تنشب بين ابن الصبرة وابن الصالح لكل أمر ولكل شاردة وواردة.
سبق صوت أسعد الشحاذ صوت أم يوسف وطبقها القادم بالإبريق والفناجين...
قال ابن الأحمد:
أسعد الشحاذ عند بيت ابن الحمودة تحت شجرة التوت التي أمام بيتهم.
رد ابن الصبرة: جاء الصوت من جهة الساقية لا من جهة بيت ابن الحمودة.
قال ابن الأحمد لابن الصبرة:
انتظر لحظات، وسترى من أين جاء الصوت. أبو يوسف بعد أن سكت ابن الأحمد قال: صوت أسعد الشحاذ قريب، وآتٍ من جهة قريبة لا من جهة بعيدة، وبيت ابن الحمودة أقرب من الساقية.
بيت ابن الحمودة قريب من بيت أبي يوسف... والأرض التي أمامه تتاخم أرض شجرة التوت، وتكاد لا تنفصل عنها لولا الحفاف الموجودة بين الأرضين...
والدرب المنطلق من أمام بيت أبي يوسف يمر قريباً من بيت ابن الحمودة. بينما الساقية بعيدة عن بيت أبي يوسف، بينها وبين شجرة التوت تترامى مروج وكروم الضيعة... بعد تخم أرض التوتة وبيت أبي يوسف تنهض أشجار زيتون كرم ابن الأحمد، وبعد كرم ابن الحمودة، وقرب الساقية من جهتيها الشمالية والجنوبية يمتد مرج ابن الصبرة وكرم زيتونه، وبعده إلى الشمال كرم ابن الصالح، وإلى الشرق من الكروم تترامى مراعي ضيعة شجرة التوت وبراريها الفسيحة... ومن المميّز في حياة أبي يوسف وشجراته البرية، أنه كان مولعاً بالمراعي ومساءات الضيعة، وأن تخوم أرض شجرة التوت لا تنفصل عن البراري والمراعي بأي فاصل ولا تنأى عنها مهما اشتد عليها العطش.
شرب أبو يوسف وجيرانه فناجين الشاي التي قدمتها أم يوسف بسرور وبهجة، لأن أبا يوسف عاد إلى حديث الأيام وشجرة التوت:
هل تعرفون أنني أيام سفري وعملي في البلاد البعيدة اختلفت أنا والناظر علينا...
قال لي:
-أنت مقصّر في عملك.
-لا أنا ماقصّرت...
-سأجعلك تتوب... وتترك عملك... وتسافر إلى بلدك...
في ذلك اليوم لم أستطع أن آكل من شدة غيظي من أمر ذلك الناظر... لكنني في وقت الهاجرة والناس يأكلون رقدت رقدة سريعة واستيقظت، فأحسست أن شجرة التوت أمامي وأنّ الناظر يحاول أن يقطع أغصانها ويقتل عصافيرها ويهدم المصطبة التي إلى جوارها. حاولت أن أقف في وجه الناظر وأضربه، لكنني في أول الأمر كنت أضعف من أن أفعل أي شيء، خفت أن تنتهي شجرة التوت، وتنتهي رائحتها وعشرتها مع الجيران والبراري القريبة منها...
وقبل أن يقطع أغصانها رأيتها تختفي في جهة لم يستطع الناظر معرفتها وتحديدها، وأحسست أننّي اختفيت معها، وأن الناظر فشل في بحثه عني وعن شجرة التوت... وأن بصيرته عميت عني وعنها وعن القرية، وبعد أيام قليلة عدت من سفري، وكانت أم يوسف ولدت يوسف...
توتة أبي يوسف متميزة بملامحها ونشأتها وحياتها عن سائر أشجار التوت في القرية... فهي برية وقديمة، ولا يعرف بالتحديد تاريخ ظهورها، وهي واسعة الأغصان وقوية الجذع... ابن الأحمد لم يجلس مرة عند أبي يوسف إلا أخذته الدهشة إزاء جذع شجرته القوي... وقد سأل ابن الصالح وابن الصبره عن سر ذلك.
أبو يوسف نهض ودخل إلى البيت، ليملأ علبة الدخان، وابن الأحمد راح يتأمل جذع التوتة المتين والراسخ، ولم يقطع تأملاته إلا صوت ابن الصالح:
-أين رحت يابن الأحمد؟؟
-إنني متعجب من أمر هذه التوتة يابن الصالح.
قال ابن الصبرة:
-أنا مثلك أتعجب من قوة وكبر هذه التوتة، فلا يوجد في كل القرية، ولا في القرى التي زرتها شجرة بقوتها وكبرها وقدمها.
رد ابن الصالح:
ويزيدها قوة وخيراً أنها في مكان قريب من المراعي وقريب من كل الدروب، وتحت أغصانها تجتمع نساء القرية لقشر القمح في الجرن القديم... نظر ابن الأحمد إلى يسار التوتة حيث أشار ابن الصالح، ليعاين جيداً الحجر المنقور الموجود خصيصاً لقشر القمح.
عاد ابن الأحمد إلى الكلام:
ولا ننسى يا ابن الصالح أن الديار بسكانها، والشجر بأصحابه، وأبو يوسف من الرجال العتيقين في قريتنا، ومن الرجال الأشدّاء والكرام.
قال ابن الصبرة:
أنا لا أعرف أن أنظر إلى شجرة التوت إذا لم يكن أبو يوسف قربها... منذ أيام /الولدنه/ وأنا أرى شجرة التوت الكبيرة وأرى قرب جذعها أبا يوسف وأشاهد دخان لفافته وفنجان الشاي الكبير أمامه أو في يديه، والنساء يتواردن ومعهن القمح، ليقشرنه في الجرن تحت أغصان التوتة...
أم يوسف لم تسمع إلا كلمات قليلة، لأن النعاس ملأ عينيها فنامت على الحصير الممدّد على المصطبة الداخلية، وقد عرف أبو يوسف ذلك جيداً، عندما انقطع صوتها، وانقطعت ميلاتها، وسكتت أسئلتها الملحاحة بشأن البيضات وأفراخ الحمام، وجرن القمح وجرن الدجاجات... وعندما دخل إلى البيت وألفاها نائمة قال في نفسه:
"نشرب الشاي على مهل، ونلف اللفافات دون أن نسمع تقريع أم يوسف
وشكواها من الدنيا ومن الأزواج الذين لا يوفرون بيضات الدجاجات، وأفراخ الحمام.
ملأ أبو يوسف علبته تبغاً ورجع أدراجه بتؤدة كي لا يوقظ أم يوسف... هبط المصطبة واتّجه إلى الباب، وعيناه الضيقتان قليلاً ترقبان كل شيء أمامه حذراً من أن تصطدم قدماه بشيء، ولو بحبة تراب لا أهل لها ولا وطن. قامته المحنية بعض الشيء من ثقل الشقاء وهموم السنين لم تذهب ببهاء أبي يوسف، بل زادته حناناً وحباً للناس وزادته احتراماً بين جيرانه... وهو يخرج من باب البيت كانت آثار السنين بادية على ملامحه... قامته أتعبتها ضربات الدنيا، وتجاعيد وجهه ازدادت، وأنامله لم تعد قوية مثلما كانت أيام الشباب، قبل أن يعبر عتبة البيت أمسك بطرف /قمبازه/ الطويل ولمه ورفع حاجبيه، ليرى حالة الجو ويعرف كيف انتشرت الأجنحة في فضاء شجرة التوت، وليتبين إن كان جرن الدجاجات مملوءاً ماءً...
جرن الدجاجات يتوسط الساحة المجاورة للمصطبة، وهو باد لكل دجاجة تود أن تشرب، وجوانبه ليست مرتفعة، فهو مسطح وليس عميقاً، ليسهل على الدجاجات والأفراخ أن تشرب منه.
مشي أبو يوسف بحذاء حفاف المصطبة، عبر الدرب الضيق المؤدي إلى الساحة، فرأى أن جرن الدجاجات غير مملوء، فأقبل على الجرة الكبيرة المتكئة على حائط الساحة الغربي، أخذ عنها غطاءها النحاسي المجوف، وملأه ماء، وسكبه في جرن الدجاجات، وأعاده إلى فم الجرة.
كان الحر شديداً، لكن مصطبة شجرة التوت، لم تبعث على الشعور الثقيل بالحر، فأغصان التوتة لم تبخل برفيفها الحنون الدائم.
لم يجلس أبو يوسف على المصطبة فور صعوده إليها، لأنه لمح زوجة ابن الصبرة قادمة، وعلى كتفها كيس مملوء قمحاً...
قال بصوته الرصين والعفوي:
جاءتك أم محمود يا ابن الصبرة.
قال ابن الصالح:
عرفتْ في أي وقت تجيء...
قال ابن الأحمد:
-فعلاً استطاعت أن تمسك بك حياً ترزق لتساعدها في قشر القمح شئت أم أبيت...
جلست زوجة ابن الصبرة قرب الجرن، وأمسكت بالحجر المخصص لدق القمح المبلل قليلاً بالماء، وابن الصالح استأذن من أبي يوسف، ومشى نزولاً عبر درب المروج والكروم.
قال ابن الأحمد لأبي يوسف:
-ابن الصالح شاب وشبابه كيّس، والدنيا لم تطعنه بعد كما طعنتنا...
قال ابن الصبرة وهو يهم بالإقبال على الجرن لمساعدة أم محمود زوجته: ابن الصالح جاري منذ سنين طويلة. أنا أعرفه وهو طفل.
رد ابن الأحمد:
-فعلاً بيتك وبيت ابن الصالح متجاوران من سنين وسنين... أنا أذكر بيت والدك وبيت والده قبل خمسين سنة تقريباً. كان حائط بيتكم يلاصق حائط بيتهم... وأرضكم مجاورة لأرضهم... وأبو يوسف يعرف أكثر مني تاريخ ابن الصبرة وتاريخ والده وتاريخ زواجه...
-قال أبو يوسف بصوت خفيض لكنه واضح:
فعلاً –يا ابن الصبرة- بيت أبيك وبيت ابن الصالح متجاوران فعلاً من أيام بعيدة... والدك في أيام كثيرة كان حين يتعب من الفلاحة في أرض الساقية، يتجه إلى حيث يكون والد ابن الصالح في أرضه التي على الساقية قرب أرضكم، ليلف سيكارة من علبته... وأذكر يوم تزوجت أنت من أخت يوسف بوحمود صاحب الدكان، وأذكر يوم تزوج ابن الصالح من بنت أخ أم يوسف، ويومها أعطاه، أو لنقل أعطى بنته –الأرض التي قرب بيتك يا ابن الأحمد...
صمت ابن الأحمد وقال:
صدّقني يا أبا يوسف إن قصة أرض ابن الصالح التي قرب بيتي كانت غائبة عن بالي، وكنت ناسياً أن أخ أم يوسف هو الذي أعطاها له.
ملامح ابن الأحمد متجهمة صارمة، لا يبتسم إلا في أوقات نادرة، وابتساماته تنبثق كسولة خاملة، حتى يعتقد الناظر إليه أنه يقرر أن يصرخ أو أن يبكي لا أن يبتسم، وحاله هذه لا تودعه لا في الصيف ولا في الشتاء، ولا في الصباح ولا في المساء. وتزداد توتراً ومهابة وصرامة أمام أولاده.
نظر إليه أبو يوسف فتبدى لـه صارماً، فقال له:
-أعجب من أمرك يا ابن الأحمد. إنك توحي لمن يراك لأول مرة أنك ستبكي... وأنا أعتقد أن الطيور لا تجرؤ على الاقتراب منك إذا كنت غاضباً.
صمت ابن الأحمد، بينما أبو يوسف انشغل بلف لفافة تبغ جديدة، وابن الصبرة راح يدق القمح بالحجر الأملس المخصص لدق القمح وقشره.
يدا ابن الصبرة ليستا قويتين بحيث تليّن القاسي، لكنهما قادرتان على حمل حجر الجرن وإعادته، ومثله أم محمود زوجته، فكلاهما يشبه الآخر بالهيئة والمتانة... وبالقد والبدانة والنحول... ابن الصبرة وأم محمود لم يستفيدا من دهرهما إلا السمرة الفائضة عن الحاجة والشقاء الدائم، لكنهما مع كل التعب الذي ينتظرهما كل يوم فحالهما ميسورة قليلاً وأرضهما قريبة من بيتهما. بعد أن عرق ابن الصبرة وتعب، نزع الشملة عن رأسه، واستند إلى جذع التوتة الراسخ، ومدّ رجليه ليستريح ونفخ نفخة عالية وعميقة، وكأنه يطرد من صدره الغيظ والشقاء...
استلمت أم محمود حجر الجرن وراحت تدق القمح بكل ما أوتيت من قوة... ضربات حجر الجرن كانت تشغل الصمت وتقطعه... قدم أبو يوسف لابن الصبرة علبة التبغ ودعاه ليلف منها سيكارة:
-خذ لف سيكارة وجرّب دخان علبتي.
-بارك الله فيك وبعلبتك...
في طفولتي رأيت شجرة التوت البرية تمشي باتجاه بيتنا الترابي المخلع، وباتجاه كل البيوت، ورأيتها تلم الجيران تحت أغصانها، ورأيت صاحبها أبا يوسف رجل القرية العتيق، وسمعته يحكي حكايات طيبة عن العيش والأيام، وسمعته يغني أغنيات: تشبه برد الصيف ورنين أصوات المراعي.
في يوم من أيام المدرسة، ونحن نهم بالسير عبر الدرب المؤدي إلى المدرسة، استوقفتنا شجرة التوت... واستوقفنا صوت أبي يوسف وهو يحكي لابن الأحمد وابن الصبرة وابن الصالح:
-هل سافرت يا ابن الأحمد إلى تركيا؟
-لا... لم أسافر...
-وأنت يا ابن الصبرة هل سافرت إلى تركيا؟؟
-لا... لم أسافر...
-أنا سافرت سيراً على قدمي إلى استانبول...
-وكم يوماً بقيت حتى وصلت؟
-سبعة أيام بلياليها... وقبل هذه السفرة سافرت إلى بلاد بعيدة.
أحببنا أنا وسلمان ولد ابن يوسف بو حمود وسمر بنت ابن الأحمد أن نقترب أكثر من شجرة التوت من صوت أبي يوسف وملامحه...
وقفنا خلف حفاف أرض شجرة التوت واحتمينا بشجرة الزنزلخت المجاورة للدرب خوفاً من أن يمنعنا ابن الصبرة أو ابن الأحمد أو سواهما من أن نسمع حكايات أبي يوسف... رغم أننا لم نمسك بجذع شجرة التوت، ورغم المسافة القصيرة التي بقيت تفصلنا عن أبي يوسف والمصطبة والجالسين عليها، بلغت أعماقنا رائحة أوراق التوتة، وسمعنا جيداً حديث أبي يوسف مع ابن الأحمد وابن الصبرة وابن الصالح،وعاينّا ملامحهم:
سأل ابن الصبرة:
-وكم بقيت يا أبا يوسف في استانبول؟
-بقيت أقل من سنة... كنت لا أنسى شجرة التوت وعشرتها وكأنها معي... وكنت أخاف عليها من اليباس أو العطش...
لم يتم أبو يوسف حديثه، لأن صوت أم يوسف قطع عليه وعلى الجالسين الحديث...
-في عمرك كله لم تترك عادتك... جمعت بيضات الدجاجات كلها، ووضعتها بالسلة، وأخذتها إلى الدكان ورجعت وأنت على المصطبة وابن الصبرة وابن الصالح وابن الأحمد عندك،وحديثكم لم ينته، ودخان سيكاراتكم لا ينقطع، وكأن الدنيا ما فيها إلا شجرة التوتة والمصطبة وشرب الدخان والأحاديث...
شاهدنا- نحن أولاد المدرسة –أمّ يوسف من بعيد واختبأنا في جهة من جهات أرض ابن الحمودة المجاورة لأرض شجرة التوت هرباً من كلماتها القاسية.
قال سلمان ولد يوسف بوحمود:
سلة أم يوسف مملوءة بالأكياس:
ردّت عليه سمر بنت ابن الأحمد:
تكون أعطت البيضات لصاحب الدكان، وأخذت منه حاجات للبيت. بقيت سمر منتبهة إلى مشية أم يوسف المتمهلة جداً، ومنديلها الملفوف على رأسها بإتقان، وشفتيها المتوترتين، حتى يظن من يراهما أنهما تستعدان للبصاق أو لقبلة حربية.
قالت سمر: أم يوسف دائماً تمشي على مهلها، ودائماً لا تضحك لأحد، حتى لأبي يوسف...
قبل أن تصل أم يوسف بادرها ابن الصالح بالحديث:
كنت تبيعين البيضات، وماذا أحضرت معك من الدكان؟
-زادت أم يوسف زم شفتيها وكأن القنبلة الموقوتة تكاد تنفجر...
-أبو يوسف أنهى لف لفافة التبغ في يده، وأشعلها ومسح وجهه بكفيه، وعاد إلى جذع التوتة ومسحه بكفيه، وراح يعاين أغصانها وشكل أوراقها والعصافير المنتشرة في جهاتها، ونسي أن يلتفت إلى جهة الشمال حيث وقفت أمّ يوسف وراحت تبحث عن بيضات الدجاجات وعن الأفراخ... التي لم تستقلّ بعد عن الدجاجات الكبيرة التي فقستها...
بعد أن أنهت أم يوسف جولتها التفقدية وتأكدت من أن بعض البيضات غير موجودة في الأعشاش المخصصة للبيض، ازدادت شفتاها توتراً وازدادت مشيتها تمهلاً، قالت لأبي يوسف:
-أنا أعرف أن عادتك لن تغيّرها، الولد الذي تصادفه ستعطيه إما بيضة، وإما تعطيه الفرنكات التي معك...
أخذ أبو يوسف نفساً عميقاً من لفافته، وابتسم ابتسامة هادئة انسربت من كل ملامحه، وقال:
-يا أم يوسف! بعض الدجاجات ما باضت اليوم...
-هذا عذرك الدائم... أنا متعودة على فنونك...
-تعودّي على فنوني، واسقينا الشاي، وستزداد البيضات.
ضحك ابن الصبرة، فبانت تجاعيد وجهه، ومثله ضحك ابن الأحمد، وابن الصالح. مالت أم يوسف ميلة يمنى وميلة يسرى باتجاه عتبة البيت...
حين دخلت طارت بعض الحمامات طيراناً يسيراً وعادت إلى دوحها، وكأنها بذلك ترحب بأم يوسف وتطالبها ببعض حبات القمح...
اتجهت أم يوسف إلى مصطبة البيت، وصعدتها. أخذت الإبريق المعلق بمسمار خاص به في عمود البيت. عمود البيت يتوسط المصطبة الداخلية، وهو معني بحمل الكثير من الأغراض والحاجات، مسمار علق به طبق القش، وآخر علقت به جرة الزيت، وآخر علقت به حقيبة فناجين الشاي، وإلى يسار العمود يستريح /البابور/ والسراج /وعنبر القمح...
أمسكت أم يوسف الإبريق وملأته من الجرة الموجودة على المصطبة في جهتها الشرقية حيث الحائط، وأقبلت على العمود، فأخذت الحقيبة المخصصة للسكر والشاي فغرفت بيدها ما اعتقدت أنه يكفي من الشاي ومن السكر، وانتقلت إلى /البابور/ أشعلته على عجل، ووضعت الإبريق عليه، وانتبهت إلى أفراخ الحمام والحمامات الكبيرة.
أعشاش الحمام كان أكثرها داخل البيت، في طاقات خاصة، وكان بعضها فوق العتبة في صناديق وعلب، وبدراية تعرف أم يوسف كل حمامة من حمامات البيت وتعرف صوتها ولونها. وتعرف إن كانت جائعة... وتعرف الأفراخ معرفة حاذقة، فلا يمكن لا أحد أن يضللها عن الأعشاش أو الأفراخ... ولهذا كانت تنشب بينها وبين أبي يوسف معارك دائمة عندما يذبح بعض الأفراخ، ليشويها ويأكلها، أو ليطعم بعض ضيوفه في غيابها.
انتهت أم يوسف من إعداد الشاي وغليه، وأحضرت الفناجين الكبيرة، وحملتها على طبق من قش وخرجت إلى مصطبة شجرة التوت، حيث جلس أبو يوسف وجيرانه يتجاذبون أطراف الحديث وأحياناً يمزقون الحديث وأطرافه بسبب الخلافات التي تنشب بين ابن الصبرة وابن الصالح لكل أمر ولكل شاردة وواردة.
سبق صوت أسعد الشحاذ صوت أم يوسف وطبقها القادم بالإبريق والفناجين...
قال ابن الأحمد:
أسعد الشحاذ عند بيت ابن الحمودة تحت شجرة التوت التي أمام بيتهم.
رد ابن الصبرة: جاء الصوت من جهة الساقية لا من جهة بيت ابن الحمودة.
قال ابن الأحمد لابن الصبرة:
انتظر لحظات، وسترى من أين جاء الصوت. أبو يوسف بعد أن سكت ابن الأحمد قال: صوت أسعد الشحاذ قريب، وآتٍ من جهة قريبة لا من جهة بعيدة، وبيت ابن الحمودة أقرب من الساقية.
بيت ابن الحمودة قريب من بيت أبي يوسف... والأرض التي أمامه تتاخم أرض شجرة التوت، وتكاد لا تنفصل عنها لولا الحفاف الموجودة بين الأرضين...
والدرب المنطلق من أمام بيت أبي يوسف يمر قريباً من بيت ابن الحمودة. بينما الساقية بعيدة عن بيت أبي يوسف، بينها وبين شجرة التوت تترامى مروج وكروم الضيعة... بعد تخم أرض التوتة وبيت أبي يوسف تنهض أشجار زيتون كرم ابن الأحمد، وبعد كرم ابن الحمودة، وقرب الساقية من جهتيها الشمالية والجنوبية يمتد مرج ابن الصبرة وكرم زيتونه، وبعده إلى الشمال كرم ابن الصالح، وإلى الشرق من الكروم تترامى مراعي ضيعة شجرة التوت وبراريها الفسيحة... ومن المميّز في حياة أبي يوسف وشجراته البرية، أنه كان مولعاً بالمراعي ومساءات الضيعة، وأن تخوم أرض شجرة التوت لا تنفصل عن البراري والمراعي بأي فاصل ولا تنأى عنها مهما اشتد عليها العطش.
شرب أبو يوسف وجيرانه فناجين الشاي التي قدمتها أم يوسف بسرور وبهجة، لأن أبا يوسف عاد إلى حديث الأيام وشجرة التوت:
هل تعرفون أنني أيام سفري وعملي في البلاد البعيدة اختلفت أنا والناظر علينا...
قال لي:
-أنت مقصّر في عملك.
-لا أنا ماقصّرت...
-سأجعلك تتوب... وتترك عملك... وتسافر إلى بلدك...
في ذلك اليوم لم أستطع أن آكل من شدة غيظي من أمر ذلك الناظر... لكنني في وقت الهاجرة والناس يأكلون رقدت رقدة سريعة واستيقظت، فأحسست أن شجرة التوت أمامي وأنّ الناظر يحاول أن يقطع أغصانها ويقتل عصافيرها ويهدم المصطبة التي إلى جوارها. حاولت أن أقف في وجه الناظر وأضربه، لكنني في أول الأمر كنت أضعف من أن أفعل أي شيء، خفت أن تنتهي شجرة التوت، وتنتهي رائحتها وعشرتها مع الجيران والبراري القريبة منها...
وقبل أن يقطع أغصانها رأيتها تختفي في جهة لم يستطع الناظر معرفتها وتحديدها، وأحسست أننّي اختفيت معها، وأن الناظر فشل في بحثه عني وعن شجرة التوت... وأن بصيرته عميت عني وعنها وعن القرية، وبعد أيام قليلة عدت من سفري، وكانت أم يوسف ولدت يوسف...
توتة أبي يوسف متميزة بملامحها ونشأتها وحياتها عن سائر أشجار التوت في القرية... فهي برية وقديمة، ولا يعرف بالتحديد تاريخ ظهورها، وهي واسعة الأغصان وقوية الجذع... ابن الأحمد لم يجلس مرة عند أبي يوسف إلا أخذته الدهشة إزاء جذع شجرته القوي... وقد سأل ابن الصالح وابن الصبره عن سر ذلك.
أبو يوسف نهض ودخل إلى البيت، ليملأ علبة الدخان، وابن الأحمد راح يتأمل جذع التوتة المتين والراسخ، ولم يقطع تأملاته إلا صوت ابن الصالح:
-أين رحت يابن الأحمد؟؟
-إنني متعجب من أمر هذه التوتة يابن الصالح.
قال ابن الصبرة:
-أنا مثلك أتعجب من قوة وكبر هذه التوتة، فلا يوجد في كل القرية، ولا في القرى التي زرتها شجرة بقوتها وكبرها وقدمها.
رد ابن الصالح:
ويزيدها قوة وخيراً أنها في مكان قريب من المراعي وقريب من كل الدروب، وتحت أغصانها تجتمع نساء القرية لقشر القمح في الجرن القديم... نظر ابن الأحمد إلى يسار التوتة حيث أشار ابن الصالح، ليعاين جيداً الحجر المنقور الموجود خصيصاً لقشر القمح.
عاد ابن الأحمد إلى الكلام:
ولا ننسى يا ابن الصالح أن الديار بسكانها، والشجر بأصحابه، وأبو يوسف من الرجال العتيقين في قريتنا، ومن الرجال الأشدّاء والكرام.
قال ابن الصبرة:
أنا لا أعرف أن أنظر إلى شجرة التوت إذا لم يكن أبو يوسف قربها... منذ أيام /الولدنه/ وأنا أرى شجرة التوت الكبيرة وأرى قرب جذعها أبا يوسف وأشاهد دخان لفافته وفنجان الشاي الكبير أمامه أو في يديه، والنساء يتواردن ومعهن القمح، ليقشرنه في الجرن تحت أغصان التوتة...
أم يوسف لم تسمع إلا كلمات قليلة، لأن النعاس ملأ عينيها فنامت على الحصير الممدّد على المصطبة الداخلية، وقد عرف أبو يوسف ذلك جيداً، عندما انقطع صوتها، وانقطعت ميلاتها، وسكتت أسئلتها الملحاحة بشأن البيضات وأفراخ الحمام، وجرن القمح وجرن الدجاجات... وعندما دخل إلى البيت وألفاها نائمة قال في نفسه:
"نشرب الشاي على مهل، ونلف اللفافات دون أن نسمع تقريع أم يوسف
وشكواها من الدنيا ومن الأزواج الذين لا يوفرون بيضات الدجاجات، وأفراخ الحمام.
ملأ أبو يوسف علبته تبغاً ورجع أدراجه بتؤدة كي لا يوقظ أم يوسف... هبط المصطبة واتّجه إلى الباب، وعيناه الضيقتان قليلاً ترقبان كل شيء أمامه حذراً من أن تصطدم قدماه بشيء، ولو بحبة تراب لا أهل لها ولا وطن. قامته المحنية بعض الشيء من ثقل الشقاء وهموم السنين لم تذهب ببهاء أبي يوسف، بل زادته حناناً وحباً للناس وزادته احتراماً بين جيرانه... وهو يخرج من باب البيت كانت آثار السنين بادية على ملامحه... قامته أتعبتها ضربات الدنيا، وتجاعيد وجهه ازدادت، وأنامله لم تعد قوية مثلما كانت أيام الشباب، قبل أن يعبر عتبة البيت أمسك بطرف /قمبازه/ الطويل ولمه ورفع حاجبيه، ليرى حالة الجو ويعرف كيف انتشرت الأجنحة في فضاء شجرة التوت، وليتبين إن كان جرن الدجاجات مملوءاً ماءً...
جرن الدجاجات يتوسط الساحة المجاورة للمصطبة، وهو باد لكل دجاجة تود أن تشرب، وجوانبه ليست مرتفعة، فهو مسطح وليس عميقاً، ليسهل على الدجاجات والأفراخ أن تشرب منه.
مشي أبو يوسف بحذاء حفاف المصطبة، عبر الدرب الضيق المؤدي إلى الساحة، فرأى أن جرن الدجاجات غير مملوء، فأقبل على الجرة الكبيرة المتكئة على حائط الساحة الغربي، أخذ عنها غطاءها النحاسي المجوف، وملأه ماء، وسكبه في جرن الدجاجات، وأعاده إلى فم الجرة.
كان الحر شديداً، لكن مصطبة شجرة التوت، لم تبعث على الشعور الثقيل بالحر، فأغصان التوتة لم تبخل برفيفها الحنون الدائم.
لم يجلس أبو يوسف على المصطبة فور صعوده إليها، لأنه لمح زوجة ابن الصبرة قادمة، وعلى كتفها كيس مملوء قمحاً...
قال بصوته الرصين والعفوي:
جاءتك أم محمود يا ابن الصبرة.
قال ابن الصالح:
عرفتْ في أي وقت تجيء...
قال ابن الأحمد:
-فعلاً استطاعت أن تمسك بك حياً ترزق لتساعدها في قشر القمح شئت أم أبيت...
جلست زوجة ابن الصبرة قرب الجرن، وأمسكت بالحجر المخصص لدق القمح المبلل قليلاً بالماء، وابن الصالح استأذن من أبي يوسف، ومشى نزولاً عبر درب المروج والكروم.
قال ابن الأحمد لأبي يوسف:
-ابن الصالح شاب وشبابه كيّس، والدنيا لم تطعنه بعد كما طعنتنا...
قال ابن الصبرة وهو يهم بالإقبال على الجرن لمساعدة أم محمود زوجته: ابن الصالح جاري منذ سنين طويلة. أنا أعرفه وهو طفل.
رد ابن الأحمد:
-فعلاً بيتك وبيت ابن الصالح متجاوران من سنين وسنين... أنا أذكر بيت والدك وبيت والده قبل خمسين سنة تقريباً. كان حائط بيتكم يلاصق حائط بيتهم... وأرضكم مجاورة لأرضهم... وأبو يوسف يعرف أكثر مني تاريخ ابن الصبرة وتاريخ والده وتاريخ زواجه...
-قال أبو يوسف بصوت خفيض لكنه واضح:
فعلاً –يا ابن الصبرة- بيت أبيك وبيت ابن الصالح متجاوران فعلاً من أيام بعيدة... والدك في أيام كثيرة كان حين يتعب من الفلاحة في أرض الساقية، يتجه إلى حيث يكون والد ابن الصالح في أرضه التي على الساقية قرب أرضكم، ليلف سيكارة من علبته... وأذكر يوم تزوجت أنت من أخت يوسف بوحمود صاحب الدكان، وأذكر يوم تزوج ابن الصالح من بنت أخ أم يوسف، ويومها أعطاه، أو لنقل أعطى بنته –الأرض التي قرب بيتك يا ابن الأحمد...
صمت ابن الأحمد وقال:
صدّقني يا أبا يوسف إن قصة أرض ابن الصالح التي قرب بيتي كانت غائبة عن بالي، وكنت ناسياً أن أخ أم يوسف هو الذي أعطاها له.
ملامح ابن الأحمد متجهمة صارمة، لا يبتسم إلا في أوقات نادرة، وابتساماته تنبثق كسولة خاملة، حتى يعتقد الناظر إليه أنه يقرر أن يصرخ أو أن يبكي لا أن يبتسم، وحاله هذه لا تودعه لا في الصيف ولا في الشتاء، ولا في الصباح ولا في المساء. وتزداد توتراً ومهابة وصرامة أمام أولاده.
نظر إليه أبو يوسف فتبدى لـه صارماً، فقال له:
-أعجب من أمرك يا ابن الأحمد. إنك توحي لمن يراك لأول مرة أنك ستبكي... وأنا أعتقد أن الطيور لا تجرؤ على الاقتراب منك إذا كنت غاضباً.
صمت ابن الأحمد، بينما أبو يوسف انشغل بلف لفافة تبغ جديدة، وابن الصبرة راح يدق القمح بالحجر الأملس المخصص لدق القمح وقشره.
يدا ابن الصبرة ليستا قويتين بحيث تليّن القاسي، لكنهما قادرتان على حمل حجر الجرن وإعادته، ومثله أم محمود زوجته، فكلاهما يشبه الآخر بالهيئة والمتانة... وبالقد والبدانة والنحول... ابن الصبرة وأم محمود لم يستفيدا من دهرهما إلا السمرة الفائضة عن الحاجة والشقاء الدائم، لكنهما مع كل التعب الذي ينتظرهما كل يوم فحالهما ميسورة قليلاً وأرضهما قريبة من بيتهما. بعد أن عرق ابن الصبرة وتعب، نزع الشملة عن رأسه، واستند إلى جذع التوتة الراسخ، ومدّ رجليه ليستريح ونفخ نفخة عالية وعميقة، وكأنه يطرد من صدره الغيظ والشقاء...
استلمت أم محمود حجر الجرن وراحت تدق القمح بكل ما أوتيت من قوة... ضربات حجر الجرن كانت تشغل الصمت وتقطعه... قدم أبو يوسف لابن الصبرة علبة التبغ ودعاه ليلف منها سيكارة:
-خذ لف سيكارة وجرّب دخان علبتي.
-بارك الله فيك وبعلبتك...
ريانية العود- إدارة
- عدد المساهمات : 17871
تاريخ التسجيل : 15/01/2011
الموقع : قلب قطر
رد: شجرة التوت... حسين عبد الكريم...رواية
الفصل الثاني
تسلّق ابن الصالح إحدى شجرات الزيتون في أرضه المقابلة لبيت ابن الأحمد بحثاً عن الأغصان اليابسة، ليقطعها ويريح منها الزيتونة. نظر إلى بيت ابن الأحمد، فظهرت لـه المصطبة الترابية التي أمام البيت، وظهرت لـه الأغراض المنتشرة في جنباتها، وظهر لـه البساط المفروش على امتداد المصطبة تقريباً...
لمح سمراً بنت ابن الأحمد وأختها رباباً وهما تقشران حبات البطاطا استعداداً لإحضار الغداء.
لم يلبث ابن الصالح على حاله طويلاً حتى باغته صوت ابن الأحمد القوي كالصراخ، وهو ينادي زوجته:
-يا زهوة... يا زهوة...
ردّت زهوة من جهة البيت الشرقية، حيث كانت تجمع العيدان اليابسة لتجعلها وقوداً للتنور في المساء:
-نعم... ماذا تريد؟
-أنا هنا عند الدكان.
-أنا قادمة إليك.
قمطت زهوة رأسها بمنديلها الحريري المرقع، واتّجهت مسرعة عبر الدرب الترابي المؤدي إلى الساقية، فالدكان حيث جلس ابن الأحمد.
صوت سمر ورباب كان مسموعاً بالنسبة لابن الصالح وهو يقطع عيدان الزيتونات اليابسة. قالت سمر: أنا خائفة يا رباب!..
لم تجبها رباب لأنها لا تعرف أن تجيب، فهي تفهم بقشر البطاطا وحمل الماء من النبع وشرب الشاي، أما أن تعطي رأياً بالخوف من المستقبل والأيام، فذلك أمر لا علاقة لها به، ولعلها لم تتعلم في عمرها أية كلمة من هذا القبيل...
رباب عكس سمر تماماً، عاشت سنواتها معزولة عن القراءة والكتابة والدنيا والآخرة، فهي لا تعرف أبعد من النبع وبيت أبي يوسف... تذهب إلى النبع لتملأ الجرة ماء، وإلى بيت أبي يوسف لتشتري البيض من أم يوسف، أما سمر فقد قرأت مع أولاد القرية ونجحت في صفوف الدراسة الأولى، وانتقلت إلى المرحلة الثانية.
وهي زيادة على ذلك صبية الصبايا، وهي كما تقول عنها أم يوسف: "سمر سبقت عمرها بجمالها ولباقتها ومعرفتها بشؤون الدنيا، لكن والدها قاسٍ في طباعه، ولا يعرف الشفقة لا عليها ولا على رباب ولا على بقية إخوتهما".
بيت ابن الأحمد محاط بأشجار المشمش والزنزلخت ومصطبة بيته واسعة، لكن قسوته وصرامة ملامحه لا تسعد جليسه، ولا تريح أولاده، ولا تترك لهم أن يعيشوا كأولاد الجيران.
نهضت سمر ونظرت إلى جهة الدرب لترى إن وصل والدها، فبدت لها شجرة توت أبي يوسف... ظهرت لها ملء المدى... ولمحت أبا يوسف قادماً من جهة الساقية الجنوبية حيث أرض وبيت ابن الصبرة وأرض وبيت ابن الصالح... لمحته يمشي كعادته متمهلاً وفي يده لفافة التبغ المشتعلة...
قالت سمر في سرها: "شجرة التوت تتصدر أفق القرية بأغصانها وعصافيرها وزهوها وفتنة الجلسة إلى جوارها، وأبو يوسف قامة تزرع الدروب بهجة، ومعاشريه شعوراً بالارتياح. قرب شجرة التوت يلتقي الجيران، ومن أمامها تمر الدروب وأكثر من هذا هي ذاكرة لا تنسى شيئاً، وعلامة فارقة في تاريخ القرية وأحداثها وتغيراتها. نادى ابن الصالح بأعلى صوته:
-يا ابن الصبرة.
-نعم يا ابن الصالح.
-ماذا تشتغل عندك؟
-أفلح أرض الزيتونات.
أبو يوسف سمع صوت ابن الصالح وابن الصبرة لكنه لم يقف، بل تابع مشيته المتمهلة باتجاه شجرته ومصطبته وبيته. على بعد أمتار من أرض ابن الصالح بيت ابن الأحمد وبعده مباشرة الدرب المنطلق باتجاه شجرة أبي يوسف وبيته...
ابن الصالح يعرف سمراً جيداً، ويعرف أنها من الناجحات في الدراسة ويعرف أنها صبية يتمناها أي شاب في القرية. أشجار المشمش والزنزلخت والمصطبة تجعل من بيت ابن الأحمد متميزاً في القرية لكن ابن الأحمد قاسٍ... وقسوته تذهب بكل جمال..
بقيت سمر واقفة ترقب أبا يوسف وهو يتقدم باتجاه شجرة التوت... وقد تمنّت أن تقترب منه وأن تسمع حكاياته عن السفر وعن الأيام... وأن تجلس على المصطبة قرب جذع الشجرة الراسخة... إنها منذ كبرت وشبّت، أحبت عشرة أبي يوسف وشجرة التوت المجاورة لبيته، ومثلها كل الأولاد وكل الجيران أحبوا عشرة أبي يوسف وشجرته البرية...
حمل ولد يوسف بوحمود صاحب الدكان سلة قصبيّه، واتجه شرقاً عبر الدرب المنطلق من أمام بيت كريم... نادى ولد كريم:
-يا حسان!
-خرج حسان مسرعاً:
نعم يا سلمان ماذا تريد؟
-ما رأيك بالذهاب إلى شجرات التين؟
-أذهب معك... انتظرني قليلاً...
دخل حسان إلى الغرفة الترابية الوسيطة، حمل سلة قصبية صغيرة كانت فوق المصطبة وخرج باتجاه رفيق الطفولة وأيام المدرسة سلمان ولد يوسف بوحمود...
مشى سلمان ومن ورائه حسان عبر الدرب الضيق المؤدي إلى زاوية أرض شجرة التوت الشمالية الغربية... عند طرف الدرب الضيق القصير المؤدي إلى زاوية أرض التوتة تنتشر بعض أشجار الزنزلخت الصغيرة، وبعض شجيرات التوت...
قبل أن يصلا إلى الزاوية حيث الدريب المؤدي إلى ساحة شجرة التوت، والدروب، لمحا ولد ابن الحمودة، وتمنّيا أن يذهب معهما، لكنهما قدّرا أنه منشغل برعي البقرة، أو بإصلاح حذائه المنكوب...
قال حسان:
-ولد ابن الحمودة مشغول إمّا برقع حذائه وإمّا برعي بقرة والده...
قال سلمان:
معنى كلامك أن لا ننادي عليه ليذهب معنا إلى شجرات التين التي في أرضكم أو أرضنا...
تابع حسان وسلمان السير عبر الدرب حتى بلغا زاوية أرض شجرة التوت، كما سمتّها القرية كلها بنسائها ورجالها وأولادها وبذاكرتها...
الدرب القادم من جهة بيت كريم والد حسان ومن جهة بيت يوسف بوحمود والد سلمان يلتقي عند زاوية أرض شجرة التوت، بالدرب القادم من جهة بيت ابن الحموده ومن جهة الساقية الشمالية والدكان. سلمان وحسان انعطفا إلى جهة شجرة التوت عبر الدريب الصغير، وبقي الدرب القادم من جهة الساقية وبيت ابن حمودة مقفراً إلا من بعض الطيور التي راحت تبحث عن شيءٍ تنقره إما لتأكله، وإما لتحمله في منقارها لتبني به أعشاشها...
قال حسان: أبو يوسف نائم على الحصير المفروش على مصطبة شجرة التوت، وأم يوسف موجودة في البيت.
-تكون أم يوسف نائمة في البيت على المصطبة الداخلية.
-في هذا اليوم الحار تنام على المصطبة مثل أبي يوسف.
نظر حسان إلى أبي يوسف، وهو نائم وقال:
عينا أبي يوسف النائمتان كم يبدو عليهما التعب يا سلمان...
-هو شقي كثيراً في حياته يا حسان.
-لكنه رغم تعبه القديم في الفلاحة والسفر ورغم فقره فهو لا يمرض، ولا يترك الدخان وشرب الشاي وأكل /القمحية/ المتبلة باللبن.
عبر حسان وسلمان شجرة التوت وأبا يوسف إلى حيث شجرات التين دون أن يحدثا أية ضجة أو فوضى، حتى إنهما أسرعا في مشيتهما دون إصدار أية أصوات قوية خشية أن تخافهما العصافير التي على أغصان التوتة، وتطير مسرعة، فتصدر بخفق أجنحتها صوتاً قد يوقظ أبا يوسف ويزعجه...
عندما وصلا إلى شجرة تين أنزلا سلتيهما القصبيتين، وراحا ينظران في جهات الأغصان بحثاً عن الثمرات الناضجة...
قال سلمان:
-انظر إلى ابن الصبرة، إنه يفلح أرضه القريبة من ساقية المراعي... ومعه ولده حمدان...
-حمدان يزيدني سنتين... وأنت كم سنة يزيدك؟؟
-يزيدني سنة ونصف السنة، لكنه لا يزيدني في الدراسة إلا صفاً واحداً... هو في الحادي عشر وأنا في العاشر...
-وسمر بنت ابن الأحمد كم تزيدك؟؟
-تزيدني سنة فقط، وهي في صف ولد ابن الصبرة.
-لكن من يراها يعجب من أمرها وأمر حسنها، فهي صارت صبية كبيرة وجميلة.
-وهي تسبق ولد ابن الصبرة بالعلامات... والنجاح.
-وابن الحمودة كم يزيدنا؟؟
-ابن الحمودة يزيدنا أربع سنوات تقريباً وهو الآن في الجامعة...
انقطع حديث سلمان وحسان لأن صوت ابن الأحمد جاء قوياً ناقماً وهو ينادي سمراً...
-يا سمر أين أنت؟
-أنا هنا عند أمي أساعدها بتقريص العجين.
تعالي واغلي الشاي بسرعة.
نظر حسان وسلمان إلى جهة بيت ابن الأحمد، فألفيا سمراً تقبل مسرعة باتجاه والدها...
قال حسان:
والد سمر صعب في حياته، وصوته قوي يا سلمان.
-ولا يطعم أولاده من الأكلات التي يحبها.
قالت لي سمر: "تصور يا حسان: أن والدي يضع علبة الحلاوة في صندوق الأحذية، ويقفل عليها كي لا نأكل منها... ولا يسمح لأحد منّا أن يشرب الشاي إلا في حضوره، ويضربنا ضرباً قوياً إذا علمَ أن واحداً منّا أكل حبة مشمش واحدة، عن شجرات المشمش دون رغبته وإرادته وأوامره"...
وصلت سمر إلى حيث جلس والدها وابن الحمودة، وهي خائفة أشد الخوف من أن يضربها لاعتقادها أنها تأخرت في الركض إليه.
قال لها بصوت متوسط القوة:
-أسرعي واغلي لنا إبريقاً من الشاي.
-قال لـه ابن الحمودة:
-لا داعي للشاي ولا لغيرها.
كان المساء يحبو كسولاً، وكانت دجاجات أم يوسف تأخذ دربها باتجاه ساحة البيت، حيث نثرت أم يوسف لها بعض حبات القمح وراحت تنادي...
تعاه تعاه تعاه... بيتي... بيتي... بيتي...
وكانت الدجاجات تلبي النداء راكضة باتجاه أم يوسف... بعضها ركض عبر الدريب المنسرب بين حفاف أرض التوتة وبين جرن قشر القمح والمصطبة، وبعضها لم ينتظر أن يعبر من هذا الدريب المغطى بأغصان التوتة والمحوط بحفاف الأرض وحفاف المصطبة، بل تراكضت من جهة المصطبة الشرقية، تاركة (مصعها) على المصطبة كهدية رمزية للجيران أو لأم يوسف، التي ستقوم بكنسه...
وكان شعر سمر يتأرجح كغابة سوداء صغيرة مع النسيم وهي تساعد أمها بالخبز، على التنور، المجاور لشجرة الزيتون الكبيرة، والقريب من الدرب الواصل بين بيت ابن الأحمد وبيت ابن الحمودة وشجرة وبيت أبي يوسف...
وكانت زوجة ابن الحمودة تسعى في جهات الأرض القريبة من البيت بحثاً عن شيء أضاعته، أو عن طائر سقط من أفق شجرة التوت... في هذا الوقت كان سلمان وحسان ملأا سلتيهما تيناً، وعادا باتجاه الدرب وشجرة أبي يوسف.
قال سلمان:
ما أشهاها رائحة الخبز الساخن، المخبوز على نار الحطب!!
رد حسان:
-وتزداد رائحته طيباً، إذا كانت سمر ترققه بيديها...
صمت سلمان، وراح يتأمل كلمات حسان، قال في سره: "فعلاً سمر تطيّب الخبز إذا رققته بيديها، وتزيده لذة... لكن الذي يحيرني في كلمات حسان... أنها كلمات عميقة وقد يكون قرأ رسالتي التي وضعتها لها في الكتاب منذ أيام"...
قال حسان:
مالك يا سلمان لا تتكلم... ها قد وصلنا إلى تخوم بيت أبي يوسف... وها شجرة التوت خضراء وارفة الأغصان، والعصافير منتشرة في جهاتها... وصوت أبي يوسف مسموع:
-أنت يا بن الصالح قصتك مع زوجتك قصة، تختلف معها على كل شيء...
-أنا لا أتحمل ولا أصبر مثلك يا أبا يوسف... سمعته أم يوسف فجاء صوتها كالبارود:
-أنت با ابن الصالح لا تستحق النعمة... زوجتك خير الزوجات، لكنك أنت لا تشكر...
قال أبو يوسف بصوت خفيض:
-اسكت أحسن من أن تنال حسابك من لسانها...
-لو عرفت أنها مستيقظة لما تكلمت كلمة وحدة عن أموري مع زوجتي...
-وأنا مثلك اعتقدت أنها نائمة، وهي ربما كانت نائمة، لكنها كالخلد تسمع وهي مغمضة عينيها، وخاصة إذا كان الكلام يخصها أو يخص أي واحد من أقربائها...
قطع حديث أبي يوسف وابن الصالح سلام حسان وسلمان:
السلام عليكما:
قالها سلمان وحسان معاً
ورد ابن الصالح وأبو يوسف السلام معاً أيضاً:
-وعليكما السلام
وزاد أبو يوسف:
وطيب الكلام، وتفضلا بالجلوس قرب ابن الصالح المقدام، الذي لا يضام، إلا من زوجته حين تنام، ومن عمتها أم يوسف التي لا ينقطع صوتها كالحمام... وقبل أن يجلسا جيداً، خرج صوت أم يوسف:
-أنت يا أيا يوسف لا تعرف أن تسكت... خاصة وقت يكون ابن الصالح.
فقال لها أبو يوسف: -عندي الآن ابن الصالح، وسلمان ولد صاحب الدكان وحسان ولد كريم اليقظان، ومعهما من التين سلتان ممتلئتان، فهل لك أن تأتي وتأكلي وتريحي من صوتك الأنام؟!.
اقترب حسان وسلمان من أبي يوسف، فبدا لهما وجهه المتعب، وبدت تجاعيده، وبدت عيناه الضيقتان، وشفتاه المشققتان ويداه المرهقتان.
قدما لـه سلتي التين. قال لـه حسان:
-نتمنى أن تأكل من سلتينا وأن تحكي لنا...
-سآكل بعض الثمرات الناضجة، لأن أسناني لم تعد قادرة مثل أسنانكم على أكل الثمرات الفجة غير الناضجة، وسأحكي لكما ولابن الصالح عن ابن الأحمد وقصتي معه ومع الطيور والدبق...
ابن الأحمد منذ شبابه المبكر لا يعرف أن يعيش إلا كما يعيش الآن، يشتري بكل ما يملك ويأكل فيه، وعندما لا يجد شيئاً يأكله، يحمل قضبان الدبق ويتجه إلى أشجار التوت لينشر فيها الدبق، ويمسك العصافير ويذبحها، وينتفها ويطبخها بالزيت ويأكلها وحده لامع أحد من أهل بيته ولا من أهل ضيعته إلا مع من يوافق طبعه طبعهم...
في يوم من أيام بؤسه الشديد وإفلاسه وجوعه، حمل قضبان الدبق واتجه إلى هنا إلى شجرة التوت...
سألته: أراك تحمل قضبان الدبق، معنى ذلك أنك لا تملك ما تشتري به حلاوة أو غيرها...؟
-أنت أدرى بحالي يا أبا يوسف.
-وما الذي جاء بك إلى هنا، وأنت تعرف أن شجرة التوت هذه برية، وعصافيرها أقل من عصافير سواها من الأشجار...
وهل مثلاً جربت طيور أشجار الدلب التي على الساقية؟!..
جربتها مرات عديدة، وكنت لا أوفّق كثيراً، في إمساك الطيور، لأن النبع قريب منها، والقادمون إلى النبع لا ينقطعون...
-وهل تعتقد أن القادمين إلى شجرة التوت سينقطعون؟...
-ربما يحالفني الحظ عندك وأمسك ببعض الطيور الكبيرة، فتكون طعاماً شهياً لأخيك ابن الأحمد...
-سأسمح لك بنشر قضبان دبقك على مضض يا ابن الأحمد.
-ولماذا على مضض؟؟
-لأنني لا أتمنى أن تقتل عصافير شجرة التوت هذه، فالطير خير وبركة، وأنا أرتاح للتغريد في الأصباح والهواجر والإمساء...
لكن ابن الأحمد يا ابن الصالح ويا سلمان ويا حسان نفذ رغبته، نزع حذاءه الجلدي من قدميه، وتسلق جذع التوتة بصعوبة، وغامر ونشر قضبان الدبق في أنحاء شجرة التوت، ونزل وجلس على المصطبة... لف لفافة دخان عريضة، وأشعلها وراح يعب منها أنفاساً عميقة وينظر إلى القضبان والطيور.
بقيت القضبان منشورة أكثر من ساعتين، لكنها لم تمسك العصافير.. ومن بين الطيور التي كانت في جهات شجرة التوت طائر أخضر الجناحين كبير، بقي طوال الوقت، يحلق في سماء التوتة ويغرد تغريداً بعيداً حزيناً ثم يعود وينظر إلى قضبان الدبق، ومن ثم يحلق ويغرد تغريداً حزيناً...
وعندما يئس ابن الأحمد من قضبان الدبق، تسلق الجذع وجمع القضبان، وانتعل حذاءه وراح محزون البال تعيس الحال، والطائر الكبير أخضر الجناحين حلق بعيداً، واختفى أياماً متتابعة، لا يقترب من التوتة، لا نسمع تغريده ولا نرى جناحيه، ويومها قلت لابن الأحمد:
بقضبان دبقك خسرنا الطائر الكبير وتغريده الحنون وجناحيه الكبيرين الأخضرين.
فرد عليّ يومها ابن الأحمد:
أنت تفسر أمور الطيور وشجرة التوت وكأنها مثل الأنبياء... طول بالك يا أبا يوسف!
غياب الطائر الكبير ليس قضية القضايا...
-لا يا ابن الأحمد... لا تتسرع في إطلاق أحكامك... ولا تجعل من بطنك محط اهتمامك وشغلك الشاغل...
تسلّق ابن الصالح إحدى شجرات الزيتون في أرضه المقابلة لبيت ابن الأحمد بحثاً عن الأغصان اليابسة، ليقطعها ويريح منها الزيتونة. نظر إلى بيت ابن الأحمد، فظهرت لـه المصطبة الترابية التي أمام البيت، وظهرت لـه الأغراض المنتشرة في جنباتها، وظهر لـه البساط المفروش على امتداد المصطبة تقريباً...
لمح سمراً بنت ابن الأحمد وأختها رباباً وهما تقشران حبات البطاطا استعداداً لإحضار الغداء.
لم يلبث ابن الصالح على حاله طويلاً حتى باغته صوت ابن الأحمد القوي كالصراخ، وهو ينادي زوجته:
-يا زهوة... يا زهوة...
ردّت زهوة من جهة البيت الشرقية، حيث كانت تجمع العيدان اليابسة لتجعلها وقوداً للتنور في المساء:
-نعم... ماذا تريد؟
-أنا هنا عند الدكان.
-أنا قادمة إليك.
قمطت زهوة رأسها بمنديلها الحريري المرقع، واتّجهت مسرعة عبر الدرب الترابي المؤدي إلى الساقية، فالدكان حيث جلس ابن الأحمد.
صوت سمر ورباب كان مسموعاً بالنسبة لابن الصالح وهو يقطع عيدان الزيتونات اليابسة. قالت سمر: أنا خائفة يا رباب!..
لم تجبها رباب لأنها لا تعرف أن تجيب، فهي تفهم بقشر البطاطا وحمل الماء من النبع وشرب الشاي، أما أن تعطي رأياً بالخوف من المستقبل والأيام، فذلك أمر لا علاقة لها به، ولعلها لم تتعلم في عمرها أية كلمة من هذا القبيل...
رباب عكس سمر تماماً، عاشت سنواتها معزولة عن القراءة والكتابة والدنيا والآخرة، فهي لا تعرف أبعد من النبع وبيت أبي يوسف... تذهب إلى النبع لتملأ الجرة ماء، وإلى بيت أبي يوسف لتشتري البيض من أم يوسف، أما سمر فقد قرأت مع أولاد القرية ونجحت في صفوف الدراسة الأولى، وانتقلت إلى المرحلة الثانية.
وهي زيادة على ذلك صبية الصبايا، وهي كما تقول عنها أم يوسف: "سمر سبقت عمرها بجمالها ولباقتها ومعرفتها بشؤون الدنيا، لكن والدها قاسٍ في طباعه، ولا يعرف الشفقة لا عليها ولا على رباب ولا على بقية إخوتهما".
بيت ابن الأحمد محاط بأشجار المشمش والزنزلخت ومصطبة بيته واسعة، لكن قسوته وصرامة ملامحه لا تسعد جليسه، ولا تريح أولاده، ولا تترك لهم أن يعيشوا كأولاد الجيران.
نهضت سمر ونظرت إلى جهة الدرب لترى إن وصل والدها، فبدت لها شجرة توت أبي يوسف... ظهرت لها ملء المدى... ولمحت أبا يوسف قادماً من جهة الساقية الجنوبية حيث أرض وبيت ابن الصبرة وأرض وبيت ابن الصالح... لمحته يمشي كعادته متمهلاً وفي يده لفافة التبغ المشتعلة...
قالت سمر في سرها: "شجرة التوت تتصدر أفق القرية بأغصانها وعصافيرها وزهوها وفتنة الجلسة إلى جوارها، وأبو يوسف قامة تزرع الدروب بهجة، ومعاشريه شعوراً بالارتياح. قرب شجرة التوت يلتقي الجيران، ومن أمامها تمر الدروب وأكثر من هذا هي ذاكرة لا تنسى شيئاً، وعلامة فارقة في تاريخ القرية وأحداثها وتغيراتها. نادى ابن الصالح بأعلى صوته:
-يا ابن الصبرة.
-نعم يا ابن الصالح.
-ماذا تشتغل عندك؟
-أفلح أرض الزيتونات.
أبو يوسف سمع صوت ابن الصالح وابن الصبرة لكنه لم يقف، بل تابع مشيته المتمهلة باتجاه شجرته ومصطبته وبيته. على بعد أمتار من أرض ابن الصالح بيت ابن الأحمد وبعده مباشرة الدرب المنطلق باتجاه شجرة أبي يوسف وبيته...
ابن الصالح يعرف سمراً جيداً، ويعرف أنها من الناجحات في الدراسة ويعرف أنها صبية يتمناها أي شاب في القرية. أشجار المشمش والزنزلخت والمصطبة تجعل من بيت ابن الأحمد متميزاً في القرية لكن ابن الأحمد قاسٍ... وقسوته تذهب بكل جمال..
بقيت سمر واقفة ترقب أبا يوسف وهو يتقدم باتجاه شجرة التوت... وقد تمنّت أن تقترب منه وأن تسمع حكاياته عن السفر وعن الأيام... وأن تجلس على المصطبة قرب جذع الشجرة الراسخة... إنها منذ كبرت وشبّت، أحبت عشرة أبي يوسف وشجرة التوت المجاورة لبيته، ومثلها كل الأولاد وكل الجيران أحبوا عشرة أبي يوسف وشجرته البرية...
حمل ولد يوسف بوحمود صاحب الدكان سلة قصبيّه، واتجه شرقاً عبر الدرب المنطلق من أمام بيت كريم... نادى ولد كريم:
-يا حسان!
-خرج حسان مسرعاً:
نعم يا سلمان ماذا تريد؟
-ما رأيك بالذهاب إلى شجرات التين؟
-أذهب معك... انتظرني قليلاً...
دخل حسان إلى الغرفة الترابية الوسيطة، حمل سلة قصبية صغيرة كانت فوق المصطبة وخرج باتجاه رفيق الطفولة وأيام المدرسة سلمان ولد يوسف بوحمود...
مشى سلمان ومن ورائه حسان عبر الدرب الضيق المؤدي إلى زاوية أرض شجرة التوت الشمالية الغربية... عند طرف الدرب الضيق القصير المؤدي إلى زاوية أرض التوتة تنتشر بعض أشجار الزنزلخت الصغيرة، وبعض شجيرات التوت...
قبل أن يصلا إلى الزاوية حيث الدريب المؤدي إلى ساحة شجرة التوت، والدروب، لمحا ولد ابن الحمودة، وتمنّيا أن يذهب معهما، لكنهما قدّرا أنه منشغل برعي البقرة، أو بإصلاح حذائه المنكوب...
قال حسان:
-ولد ابن الحمودة مشغول إمّا برقع حذائه وإمّا برعي بقرة والده...
قال سلمان:
معنى كلامك أن لا ننادي عليه ليذهب معنا إلى شجرات التين التي في أرضكم أو أرضنا...
تابع حسان وسلمان السير عبر الدرب حتى بلغا زاوية أرض شجرة التوت، كما سمتّها القرية كلها بنسائها ورجالها وأولادها وبذاكرتها...
الدرب القادم من جهة بيت كريم والد حسان ومن جهة بيت يوسف بوحمود والد سلمان يلتقي عند زاوية أرض شجرة التوت، بالدرب القادم من جهة بيت ابن الحموده ومن جهة الساقية الشمالية والدكان. سلمان وحسان انعطفا إلى جهة شجرة التوت عبر الدريب الصغير، وبقي الدرب القادم من جهة الساقية وبيت ابن حمودة مقفراً إلا من بعض الطيور التي راحت تبحث عن شيءٍ تنقره إما لتأكله، وإما لتحمله في منقارها لتبني به أعشاشها...
قال حسان: أبو يوسف نائم على الحصير المفروش على مصطبة شجرة التوت، وأم يوسف موجودة في البيت.
-تكون أم يوسف نائمة في البيت على المصطبة الداخلية.
-في هذا اليوم الحار تنام على المصطبة مثل أبي يوسف.
نظر حسان إلى أبي يوسف، وهو نائم وقال:
عينا أبي يوسف النائمتان كم يبدو عليهما التعب يا سلمان...
-هو شقي كثيراً في حياته يا حسان.
-لكنه رغم تعبه القديم في الفلاحة والسفر ورغم فقره فهو لا يمرض، ولا يترك الدخان وشرب الشاي وأكل /القمحية/ المتبلة باللبن.
عبر حسان وسلمان شجرة التوت وأبا يوسف إلى حيث شجرات التين دون أن يحدثا أية ضجة أو فوضى، حتى إنهما أسرعا في مشيتهما دون إصدار أية أصوات قوية خشية أن تخافهما العصافير التي على أغصان التوتة، وتطير مسرعة، فتصدر بخفق أجنحتها صوتاً قد يوقظ أبا يوسف ويزعجه...
عندما وصلا إلى شجرة تين أنزلا سلتيهما القصبيتين، وراحا ينظران في جهات الأغصان بحثاً عن الثمرات الناضجة...
قال سلمان:
-انظر إلى ابن الصبرة، إنه يفلح أرضه القريبة من ساقية المراعي... ومعه ولده حمدان...
-حمدان يزيدني سنتين... وأنت كم سنة يزيدك؟؟
-يزيدني سنة ونصف السنة، لكنه لا يزيدني في الدراسة إلا صفاً واحداً... هو في الحادي عشر وأنا في العاشر...
-وسمر بنت ابن الأحمد كم تزيدك؟؟
-تزيدني سنة فقط، وهي في صف ولد ابن الصبرة.
-لكن من يراها يعجب من أمرها وأمر حسنها، فهي صارت صبية كبيرة وجميلة.
-وهي تسبق ولد ابن الصبرة بالعلامات... والنجاح.
-وابن الحمودة كم يزيدنا؟؟
-ابن الحمودة يزيدنا أربع سنوات تقريباً وهو الآن في الجامعة...
انقطع حديث سلمان وحسان لأن صوت ابن الأحمد جاء قوياً ناقماً وهو ينادي سمراً...
-يا سمر أين أنت؟
-أنا هنا عند أمي أساعدها بتقريص العجين.
تعالي واغلي الشاي بسرعة.
نظر حسان وسلمان إلى جهة بيت ابن الأحمد، فألفيا سمراً تقبل مسرعة باتجاه والدها...
قال حسان:
والد سمر صعب في حياته، وصوته قوي يا سلمان.
-ولا يطعم أولاده من الأكلات التي يحبها.
قالت لي سمر: "تصور يا حسان: أن والدي يضع علبة الحلاوة في صندوق الأحذية، ويقفل عليها كي لا نأكل منها... ولا يسمح لأحد منّا أن يشرب الشاي إلا في حضوره، ويضربنا ضرباً قوياً إذا علمَ أن واحداً منّا أكل حبة مشمش واحدة، عن شجرات المشمش دون رغبته وإرادته وأوامره"...
وصلت سمر إلى حيث جلس والدها وابن الحمودة، وهي خائفة أشد الخوف من أن يضربها لاعتقادها أنها تأخرت في الركض إليه.
قال لها بصوت متوسط القوة:
-أسرعي واغلي لنا إبريقاً من الشاي.
-قال لـه ابن الحمودة:
-لا داعي للشاي ولا لغيرها.
كان المساء يحبو كسولاً، وكانت دجاجات أم يوسف تأخذ دربها باتجاه ساحة البيت، حيث نثرت أم يوسف لها بعض حبات القمح وراحت تنادي...
تعاه تعاه تعاه... بيتي... بيتي... بيتي...
وكانت الدجاجات تلبي النداء راكضة باتجاه أم يوسف... بعضها ركض عبر الدريب المنسرب بين حفاف أرض التوتة وبين جرن قشر القمح والمصطبة، وبعضها لم ينتظر أن يعبر من هذا الدريب المغطى بأغصان التوتة والمحوط بحفاف الأرض وحفاف المصطبة، بل تراكضت من جهة المصطبة الشرقية، تاركة (مصعها) على المصطبة كهدية رمزية للجيران أو لأم يوسف، التي ستقوم بكنسه...
وكان شعر سمر يتأرجح كغابة سوداء صغيرة مع النسيم وهي تساعد أمها بالخبز، على التنور، المجاور لشجرة الزيتون الكبيرة، والقريب من الدرب الواصل بين بيت ابن الأحمد وبيت ابن الحمودة وشجرة وبيت أبي يوسف...
وكانت زوجة ابن الحمودة تسعى في جهات الأرض القريبة من البيت بحثاً عن شيء أضاعته، أو عن طائر سقط من أفق شجرة التوت... في هذا الوقت كان سلمان وحسان ملأا سلتيهما تيناً، وعادا باتجاه الدرب وشجرة أبي يوسف.
قال سلمان:
ما أشهاها رائحة الخبز الساخن، المخبوز على نار الحطب!!
رد حسان:
-وتزداد رائحته طيباً، إذا كانت سمر ترققه بيديها...
صمت سلمان، وراح يتأمل كلمات حسان، قال في سره: "فعلاً سمر تطيّب الخبز إذا رققته بيديها، وتزيده لذة... لكن الذي يحيرني في كلمات حسان... أنها كلمات عميقة وقد يكون قرأ رسالتي التي وضعتها لها في الكتاب منذ أيام"...
قال حسان:
مالك يا سلمان لا تتكلم... ها قد وصلنا إلى تخوم بيت أبي يوسف... وها شجرة التوت خضراء وارفة الأغصان، والعصافير منتشرة في جهاتها... وصوت أبي يوسف مسموع:
-أنت يا بن الصالح قصتك مع زوجتك قصة، تختلف معها على كل شيء...
-أنا لا أتحمل ولا أصبر مثلك يا أبا يوسف... سمعته أم يوسف فجاء صوتها كالبارود:
-أنت با ابن الصالح لا تستحق النعمة... زوجتك خير الزوجات، لكنك أنت لا تشكر...
قال أبو يوسف بصوت خفيض:
-اسكت أحسن من أن تنال حسابك من لسانها...
-لو عرفت أنها مستيقظة لما تكلمت كلمة وحدة عن أموري مع زوجتي...
-وأنا مثلك اعتقدت أنها نائمة، وهي ربما كانت نائمة، لكنها كالخلد تسمع وهي مغمضة عينيها، وخاصة إذا كان الكلام يخصها أو يخص أي واحد من أقربائها...
قطع حديث أبي يوسف وابن الصالح سلام حسان وسلمان:
السلام عليكما:
قالها سلمان وحسان معاً
ورد ابن الصالح وأبو يوسف السلام معاً أيضاً:
-وعليكما السلام
وزاد أبو يوسف:
وطيب الكلام، وتفضلا بالجلوس قرب ابن الصالح المقدام، الذي لا يضام، إلا من زوجته حين تنام، ومن عمتها أم يوسف التي لا ينقطع صوتها كالحمام... وقبل أن يجلسا جيداً، خرج صوت أم يوسف:
-أنت يا أيا يوسف لا تعرف أن تسكت... خاصة وقت يكون ابن الصالح.
فقال لها أبو يوسف: -عندي الآن ابن الصالح، وسلمان ولد صاحب الدكان وحسان ولد كريم اليقظان، ومعهما من التين سلتان ممتلئتان، فهل لك أن تأتي وتأكلي وتريحي من صوتك الأنام؟!.
اقترب حسان وسلمان من أبي يوسف، فبدا لهما وجهه المتعب، وبدت تجاعيده، وبدت عيناه الضيقتان، وشفتاه المشققتان ويداه المرهقتان.
قدما لـه سلتي التين. قال لـه حسان:
-نتمنى أن تأكل من سلتينا وأن تحكي لنا...
-سآكل بعض الثمرات الناضجة، لأن أسناني لم تعد قادرة مثل أسنانكم على أكل الثمرات الفجة غير الناضجة، وسأحكي لكما ولابن الصالح عن ابن الأحمد وقصتي معه ومع الطيور والدبق...
ابن الأحمد منذ شبابه المبكر لا يعرف أن يعيش إلا كما يعيش الآن، يشتري بكل ما يملك ويأكل فيه، وعندما لا يجد شيئاً يأكله، يحمل قضبان الدبق ويتجه إلى أشجار التوت لينشر فيها الدبق، ويمسك العصافير ويذبحها، وينتفها ويطبخها بالزيت ويأكلها وحده لامع أحد من أهل بيته ولا من أهل ضيعته إلا مع من يوافق طبعه طبعهم...
في يوم من أيام بؤسه الشديد وإفلاسه وجوعه، حمل قضبان الدبق واتجه إلى هنا إلى شجرة التوت...
سألته: أراك تحمل قضبان الدبق، معنى ذلك أنك لا تملك ما تشتري به حلاوة أو غيرها...؟
-أنت أدرى بحالي يا أبا يوسف.
-وما الذي جاء بك إلى هنا، وأنت تعرف أن شجرة التوت هذه برية، وعصافيرها أقل من عصافير سواها من الأشجار...
وهل مثلاً جربت طيور أشجار الدلب التي على الساقية؟!..
جربتها مرات عديدة، وكنت لا أوفّق كثيراً، في إمساك الطيور، لأن النبع قريب منها، والقادمون إلى النبع لا ينقطعون...
-وهل تعتقد أن القادمين إلى شجرة التوت سينقطعون؟...
-ربما يحالفني الحظ عندك وأمسك ببعض الطيور الكبيرة، فتكون طعاماً شهياً لأخيك ابن الأحمد...
-سأسمح لك بنشر قضبان دبقك على مضض يا ابن الأحمد.
-ولماذا على مضض؟؟
-لأنني لا أتمنى أن تقتل عصافير شجرة التوت هذه، فالطير خير وبركة، وأنا أرتاح للتغريد في الأصباح والهواجر والإمساء...
لكن ابن الأحمد يا ابن الصالح ويا سلمان ويا حسان نفذ رغبته، نزع حذاءه الجلدي من قدميه، وتسلق جذع التوتة بصعوبة، وغامر ونشر قضبان الدبق في أنحاء شجرة التوت، ونزل وجلس على المصطبة... لف لفافة دخان عريضة، وأشعلها وراح يعب منها أنفاساً عميقة وينظر إلى القضبان والطيور.
بقيت القضبان منشورة أكثر من ساعتين، لكنها لم تمسك العصافير.. ومن بين الطيور التي كانت في جهات شجرة التوت طائر أخضر الجناحين كبير، بقي طوال الوقت، يحلق في سماء التوتة ويغرد تغريداً بعيداً حزيناً ثم يعود وينظر إلى قضبان الدبق، ومن ثم يحلق ويغرد تغريداً حزيناً...
وعندما يئس ابن الأحمد من قضبان الدبق، تسلق الجذع وجمع القضبان، وانتعل حذاءه وراح محزون البال تعيس الحال، والطائر الكبير أخضر الجناحين حلق بعيداً، واختفى أياماً متتابعة، لا يقترب من التوتة، لا نسمع تغريده ولا نرى جناحيه، ويومها قلت لابن الأحمد:
بقضبان دبقك خسرنا الطائر الكبير وتغريده الحنون وجناحيه الكبيرين الأخضرين.
فرد عليّ يومها ابن الأحمد:
أنت تفسر أمور الطيور وشجرة التوت وكأنها مثل الأنبياء... طول بالك يا أبا يوسف!
غياب الطائر الكبير ليس قضية القضايا...
-لا يا ابن الأحمد... لا تتسرع في إطلاق أحكامك... ولا تجعل من بطنك محط اهتمامك وشغلك الشاغل...
ريانية العود- إدارة
- عدد المساهمات : 17871
تاريخ التسجيل : 15/01/2011
الموقع : قلب قطر
رد: شجرة التوت... حسين عبد الكريم...رواية
-هل شاهدت، الآليات التي جاءت،وبدأت تسد الساقية الشمالية يا أم يوسف؟
-سمعت أصواتاً قوية وغريبة لكنني لم أعرف ما هي هذه الأصوات، ولا من أين جاءت...
-إنها أصوات الآليات التي تسد الساقية...
دار هذا الحديث السريع بين أم يوسف وزوجة ابن الحمودة، وأصوات الآليات التي تحفر الساقية وتردم التراب لتجعله سداً في وجه الماء قوية ترج وتمزق هدأة وطمأنينة قرية شجرة التوت ومراعيها وينابيعها كما جاء على لسان ولد ابن الحمودة...
أم يوسف وزوجة ابن الحمودة أخذهما حديث السد الجديد على الساقية الشمالية، وولد ابن الحمودة وابن الصالح وابن الصبرة أيضاً أخذهم الحديث عن أيام الساقية والينابيع وأحمال الحطب، والسد الذي سيحقن وراءه الماء.
سأل ولد ابن الحمودة أبا يوسف:
-ما رأيك أبا يوسف بهذا السد الجديد الذي سيجمع الماء وراءه؟
-هذا السد يا بني أمره عجيب مثل بطن ابن الأحمد...
نظر ابن الصالح وابن الصبرة بدهشة إلى أبي يوسف...
سأل ابن الصبرة:
-ما علاقة السد ببطن ابن الأحمد؟؟
-بطن ابن الأحمد إن امتلأ ارتاح، وإن لم يمتلئ فقصته قصة وغصته غصة، لكنه في أيام كثيرة لا يمتلئ إلا بالطيور المطبوخة بالزيت، التي يحرمنا من أنسها وتغريدها، والسد لا يمتلئ إلا بعد أن يحرمنا من ماء الينابيع وقد تنتشر فيه الأفاعي، وقد يغرق فيه بعض أولادنا...
سمع ابن الصبرة وابن الصالح وولد ابن الحمودة كلمات أبي يوسف، وامتلؤوا بصداها ورنين حروفها، وأخذتهم هواجسهم بعيداً... وخافوا خوفاً شديداً من خراب الينابيع وانتشار الأفاعي...
زوجة ابن الحمودة قالت لأم يوسف:
-أنا غير مطمئنة لهذا السد يا أم يوسف.
-طولي بالك، واطلبي الخير ولا تطلبي الشر.
امتلات القرية بضجيج الآلات وغبار حفرها، وخافت هواجس جيران شجرة التوت... وصارت عيونهم معلقة بجهة بيت أبي يوسف وشجرته.
زوجة ابن الحمودة قالت لأم يوسف:
-صرت لا أتجه إلى أية جهة أو إلى أي بيت قبل أن أعاين شجرة التوت، خوف أن يصيبها غبار الحفريات.
-أنت مثل أبي يوسف تحسبين لهذه الشجرة حسابات غريبة وعجيبة.
-لا أعرف لماذا أنا متعلقة كثيراً بهذه التوتة، بأغصانها برائحة أوراقها بالطيور التي تجيء إليها... حين سافر ولدي لم ينس أن يودع أبا يوسف وشجرة التوت... وقال لي قبل السفر بيوم واحد:
أتمنى يا أمي أن تحدثيني عن شجرة التوت وعن أبي يوسف:
"أنا يا ولدي لا أعرف هذه التوتة إلا كبيرة وواسعة الأغصان، ولم أشاهدها في يوم من أيام الصيف إلا ممتلئة بالطيور، ولم أشاهد مصطبتها إلا مزدحمة بالجيران... إن لم يكن عند أبي يوسف ابن الصبرة وابن الصالح، يكون عنده ابن الأحمد ويوسف بوحمود وأبوك...
أبو يوسف يا ولدي –في شبابه- كان يلقى الرجال ولا يهاب، وكان يجلب صيده من كف الوحوش، وكانت حالته تعيسة، وكان يركض الليل والنهار وراء اللقمة ورغيف الخبز، وكانت شجرة التوت يفيء إليها الناس في الصيف وتعطي الضيعة صورة حسنة.
والدك وابن الصبرة وابن الصالح وابن الأحمد ويوسف بوحمود وكل الجيران لا يعرفون هذه الضيعة إلا وشجرة التوت موجودة فيها، وأغصانها تملأ الأفق.
ابن الأحمد من أقسى الرجال وأصعبهم، وهو لا يذهب إلى بيت أحد في القرية، لكنه، يزور شجرة التوت، ويقعد مع أبي يوسف ويسمع أحاديثه وفي الأيام التي ينزل فيها إلى المدينة لشراء الحاجات، لا يصل إلى بيته إلا بعد أن يرتاح عند التوتة وأبي يوسف على المصطبة الترابية".
درب ليس واسعاً تحف به أغصان الزيتون والتين يصل بيت ابن الأحمد ببيت ابن الحمودة وبيت أبي يوسف وبقية البيوت...
انطلق ابن الأحمد عبر درب القرية من خلفه زوجته المصونة، تحمل على كتفها اليمنى كيساً أبيض مملوءاً بالتفاح وعلب الحلاوة، وبحذاء وشحاطة ذات قد ومد.
اشتهر ابن الأحمد بهذه الطريقة الغريبة بالعيش، وبإحضار الحاجات، والاحتفاظ بها. قد يجمع في كيس واحد التفاح والأحذية، وقد يخبئ في صندوقه الخشبي العجيب علبة حلاوة وحذاء أتت عليه يد الخراب.. بعد وقفات قصيرة مع الجيران الذين صادفهم ابن الأحمد وصل إلى مصطبة شجرة أبي يوسف جاره العتيق، ووصلت معه زوجته:
-قال أبو يوسف:
-أهلاً بابن الأحمد وزوجته المعذبة بأكياسه.
رد ابن الأحمد:
-هذا قدر من يحبون بطونهم.
-وماذا جلبت اليوم في هذا الكيس؟؟
-جلبت التفاح والحلاوة وحذاء وشحاطة... قال ابن الصبرة:
-ابن الأحمد لا يعيش إلا على كيفه.
نظرت زوجة ابن الأحمد إلى ابن الصبرة نظرة عاتبة، وكأنها قالت لـه بعينيها:
لماذا لا تعيش أنت مثل ابن الأحمد بما أنك معجب بحياته وعيشه؟!.
قال أبو يوسف:
-ابن الأحمد مثل أم يوسف طباعه صعبة، ونفسه قاسية لا تعرف اللين.
قال ابن الصبرة:
-معنى ذلك أن أم يوسف متحكمة بك كيف تشاء.
-لا يابن الصبرة... صدور الرجال أعند من الصخور، فكيف إذا كان واحد من هؤلاء الرجال هو صاحب شجرة التوت البرية العتيقة؟!
أنت على حق يا أبا يوسف.
سألت زوجة ابن الأحمد:
-أين أم يوسف؟
-ذهبت لمشاهدة بنت أخيها زوجة ابن الصالح... قال ابن الأحمد:
-معنى ذلك أننا لن نشرب الشاي؟
-نشرب الشاي، وإذا أردت نأكل التفاح من كيس ابن الأحمد. ضحك ابن الصبرة ضحكاً عالياً ومثله ضحكت زوجة ابن الأحمد، لكن ابتسامة ابن الأحمد تعثرت بقسوته الدائمة، وعادت إلى مخبئها خائبة.
قال ابن الأحمد:
-فكي الكيس يا زهوة واطعمي أبا يوسف وابن الصبرة من التفاحات.
-وأنا وأنت؟
-من نسي بطنه أضر نفسه...
فكَّت زوجة ابن الأحمد الكيس، وأخذت بعض التفاحات واتجهت إلى الجرة الكبيرة المستندة إلى حائط الساحة... غسلتها وعادت بها إلى الجالسين.
أرض ابن الأحمد متاخمة لأرض كريم والد حسان من جهة، ولأرض يوسف بوحمود من جهة أخرى وقد سيجها ابن الأحمد بسياج من العيدان والحطب، وجعل للسياج أبواباً خشبية يسيرة يمكنه أن يدخل ويخرج منها...
سمر وسلمان ولد بو حمود جلسا على المصطبة، دون أن يعطيا لجلستهما أي مظهر يوحي بالحب... سمر رغم أن سنها يقارب سن سلمان نضجت أنوثتها وتفتحت روحها على أنسام الحياة والهوى أكثر من سلمان... وصارت مبعث دهشة ولهفة وهيام سلمان، فصار يراها في نومه، ويناديها بأوصاف يتمنى لو يجرؤ على لفظها في يقظته... حتى في الرسالة التي بعثها لها، لم يجرؤ على كتابة أية كلمة من تلك الكلمات التي يمتلئ فمه وصوته بها أثناء نومه... وسمر تعرف تمام المعرفة ما يختزنه في صدره من حب لها، وهي تشعر بالحب لـه وبالارتياح.
جلس سلمان على طرف البساط بعيداً عن سمر....
قال سلمان:
-هنيئاً لك يا سمر... الجميع يحبونك...
لم تجبه بأية كلمة، مما جعل وجنتيه تزدادان احمراراً... بقي سلمان على جلسته، وسمر بقيت ملتمة على نفسها، رأسها على ركبتيها وشعرها الأسود الطويل تدلى فأخفى كامل وجهها كقمر وضاء أخفاه الليل.
من بعيد نادت رباب:
-يا سمر يا سمر.
-نهضت سمر خائفة وأسرعت إلى جهة سلمان وقالت لـه بصوت منخفض:
-والدي صار بين أشجار المشمش... اخرج من جهة أرض ابن الصالح.
-سمعت أصواتاً قوية وغريبة لكنني لم أعرف ما هي هذه الأصوات، ولا من أين جاءت...
-إنها أصوات الآليات التي تسد الساقية...
دار هذا الحديث السريع بين أم يوسف وزوجة ابن الحمودة، وأصوات الآليات التي تحفر الساقية وتردم التراب لتجعله سداً في وجه الماء قوية ترج وتمزق هدأة وطمأنينة قرية شجرة التوت ومراعيها وينابيعها كما جاء على لسان ولد ابن الحمودة...
أم يوسف وزوجة ابن الحمودة أخذهما حديث السد الجديد على الساقية الشمالية، وولد ابن الحمودة وابن الصالح وابن الصبرة أيضاً أخذهم الحديث عن أيام الساقية والينابيع وأحمال الحطب، والسد الذي سيحقن وراءه الماء.
سأل ولد ابن الحمودة أبا يوسف:
-ما رأيك أبا يوسف بهذا السد الجديد الذي سيجمع الماء وراءه؟
-هذا السد يا بني أمره عجيب مثل بطن ابن الأحمد...
نظر ابن الصالح وابن الصبرة بدهشة إلى أبي يوسف...
سأل ابن الصبرة:
-ما علاقة السد ببطن ابن الأحمد؟؟
-بطن ابن الأحمد إن امتلأ ارتاح، وإن لم يمتلئ فقصته قصة وغصته غصة، لكنه في أيام كثيرة لا يمتلئ إلا بالطيور المطبوخة بالزيت، التي يحرمنا من أنسها وتغريدها، والسد لا يمتلئ إلا بعد أن يحرمنا من ماء الينابيع وقد تنتشر فيه الأفاعي، وقد يغرق فيه بعض أولادنا...
سمع ابن الصبرة وابن الصالح وولد ابن الحمودة كلمات أبي يوسف، وامتلؤوا بصداها ورنين حروفها، وأخذتهم هواجسهم بعيداً... وخافوا خوفاً شديداً من خراب الينابيع وانتشار الأفاعي...
زوجة ابن الحمودة قالت لأم يوسف:
-أنا غير مطمئنة لهذا السد يا أم يوسف.
-طولي بالك، واطلبي الخير ولا تطلبي الشر.
***
امتلات القرية بضجيج الآلات وغبار حفرها، وخافت هواجس جيران شجرة التوت... وصارت عيونهم معلقة بجهة بيت أبي يوسف وشجرته.
زوجة ابن الحمودة قالت لأم يوسف:
-صرت لا أتجه إلى أية جهة أو إلى أي بيت قبل أن أعاين شجرة التوت، خوف أن يصيبها غبار الحفريات.
-أنت مثل أبي يوسف تحسبين لهذه الشجرة حسابات غريبة وعجيبة.
-لا أعرف لماذا أنا متعلقة كثيراً بهذه التوتة، بأغصانها برائحة أوراقها بالطيور التي تجيء إليها... حين سافر ولدي لم ينس أن يودع أبا يوسف وشجرة التوت... وقال لي قبل السفر بيوم واحد:
أتمنى يا أمي أن تحدثيني عن شجرة التوت وعن أبي يوسف:
"أنا يا ولدي لا أعرف هذه التوتة إلا كبيرة وواسعة الأغصان، ولم أشاهدها في يوم من أيام الصيف إلا ممتلئة بالطيور، ولم أشاهد مصطبتها إلا مزدحمة بالجيران... إن لم يكن عند أبي يوسف ابن الصبرة وابن الصالح، يكون عنده ابن الأحمد ويوسف بوحمود وأبوك...
أبو يوسف يا ولدي –في شبابه- كان يلقى الرجال ولا يهاب، وكان يجلب صيده من كف الوحوش، وكانت حالته تعيسة، وكان يركض الليل والنهار وراء اللقمة ورغيف الخبز، وكانت شجرة التوت يفيء إليها الناس في الصيف وتعطي الضيعة صورة حسنة.
والدك وابن الصبرة وابن الصالح وابن الأحمد ويوسف بوحمود وكل الجيران لا يعرفون هذه الضيعة إلا وشجرة التوت موجودة فيها، وأغصانها تملأ الأفق.
ابن الأحمد من أقسى الرجال وأصعبهم، وهو لا يذهب إلى بيت أحد في القرية، لكنه، يزور شجرة التوت، ويقعد مع أبي يوسف ويسمع أحاديثه وفي الأيام التي ينزل فيها إلى المدينة لشراء الحاجات، لا يصل إلى بيته إلا بعد أن يرتاح عند التوتة وأبي يوسف على المصطبة الترابية".
درب ليس واسعاً تحف به أغصان الزيتون والتين يصل بيت ابن الأحمد ببيت ابن الحمودة وبيت أبي يوسف وبقية البيوت...
انطلق ابن الأحمد عبر درب القرية من خلفه زوجته المصونة، تحمل على كتفها اليمنى كيساً أبيض مملوءاً بالتفاح وعلب الحلاوة، وبحذاء وشحاطة ذات قد ومد.
اشتهر ابن الأحمد بهذه الطريقة الغريبة بالعيش، وبإحضار الحاجات، والاحتفاظ بها. قد يجمع في كيس واحد التفاح والأحذية، وقد يخبئ في صندوقه الخشبي العجيب علبة حلاوة وحذاء أتت عليه يد الخراب.. بعد وقفات قصيرة مع الجيران الذين صادفهم ابن الأحمد وصل إلى مصطبة شجرة أبي يوسف جاره العتيق، ووصلت معه زوجته:
-قال أبو يوسف:
-أهلاً بابن الأحمد وزوجته المعذبة بأكياسه.
رد ابن الأحمد:
-هذا قدر من يحبون بطونهم.
-وماذا جلبت اليوم في هذا الكيس؟؟
-جلبت التفاح والحلاوة وحذاء وشحاطة... قال ابن الصبرة:
-ابن الأحمد لا يعيش إلا على كيفه.
نظرت زوجة ابن الأحمد إلى ابن الصبرة نظرة عاتبة، وكأنها قالت لـه بعينيها:
لماذا لا تعيش أنت مثل ابن الأحمد بما أنك معجب بحياته وعيشه؟!.
قال أبو يوسف:
-ابن الأحمد مثل أم يوسف طباعه صعبة، ونفسه قاسية لا تعرف اللين.
قال ابن الصبرة:
-معنى ذلك أن أم يوسف متحكمة بك كيف تشاء.
-لا يابن الصبرة... صدور الرجال أعند من الصخور، فكيف إذا كان واحد من هؤلاء الرجال هو صاحب شجرة التوت البرية العتيقة؟!
أنت على حق يا أبا يوسف.
سألت زوجة ابن الأحمد:
-أين أم يوسف؟
-ذهبت لمشاهدة بنت أخيها زوجة ابن الصالح... قال ابن الأحمد:
-معنى ذلك أننا لن نشرب الشاي؟
-نشرب الشاي، وإذا أردت نأكل التفاح من كيس ابن الأحمد. ضحك ابن الصبرة ضحكاً عالياً ومثله ضحكت زوجة ابن الأحمد، لكن ابتسامة ابن الأحمد تعثرت بقسوته الدائمة، وعادت إلى مخبئها خائبة.
قال ابن الأحمد:
-فكي الكيس يا زهوة واطعمي أبا يوسف وابن الصبرة من التفاحات.
-وأنا وأنت؟
-من نسي بطنه أضر نفسه...
فكَّت زوجة ابن الأحمد الكيس، وأخذت بعض التفاحات واتجهت إلى الجرة الكبيرة المستندة إلى حائط الساحة... غسلتها وعادت بها إلى الجالسين.
أرض ابن الأحمد متاخمة لأرض كريم والد حسان من جهة، ولأرض يوسف بوحمود من جهة أخرى وقد سيجها ابن الأحمد بسياج من العيدان والحطب، وجعل للسياج أبواباً خشبية يسيرة يمكنه أن يدخل ويخرج منها...
سمر وسلمان ولد بو حمود جلسا على المصطبة، دون أن يعطيا لجلستهما أي مظهر يوحي بالحب... سمر رغم أن سنها يقارب سن سلمان نضجت أنوثتها وتفتحت روحها على أنسام الحياة والهوى أكثر من سلمان... وصارت مبعث دهشة ولهفة وهيام سلمان، فصار يراها في نومه، ويناديها بأوصاف يتمنى لو يجرؤ على لفظها في يقظته... حتى في الرسالة التي بعثها لها، لم يجرؤ على كتابة أية كلمة من تلك الكلمات التي يمتلئ فمه وصوته بها أثناء نومه... وسمر تعرف تمام المعرفة ما يختزنه في صدره من حب لها، وهي تشعر بالحب لـه وبالارتياح.
جلس سلمان على طرف البساط بعيداً عن سمر....
قال سلمان:
-هنيئاً لك يا سمر... الجميع يحبونك...
لم تجبه بأية كلمة، مما جعل وجنتيه تزدادان احمراراً... بقي سلمان على جلسته، وسمر بقيت ملتمة على نفسها، رأسها على ركبتيها وشعرها الأسود الطويل تدلى فأخفى كامل وجهها كقمر وضاء أخفاه الليل.
من بعيد نادت رباب:
-يا سمر يا سمر.
-نهضت سمر خائفة وأسرعت إلى جهة سلمان وقالت لـه بصوت منخفض:
-والدي صار بين أشجار المشمش... اخرج من جهة أرض ابن الصالح.
ريانية العود- إدارة
- عدد المساهمات : 17871
تاريخ التسجيل : 15/01/2011
الموقع : قلب قطر
رد: شجرة التوت... حسين عبد الكريم...رواية
بيت ابن الأحمد والدرب المؤدي إليه يوحيان بأن ساكنه يخلو من القسوة، لكن الحال على خلاف ذلك، فنفس ابن الأحمد... معذبة مطعونة، وروحه مزدحمة بالشقاء والتعاسة، وهذا ما جعله يميل إلى العزلة والقسوة وظلم أولاده... ويبدو أنه ورث النكد والفقر والطباع السيئة من دنيا غنية بهذه الحاجات.
الدرب الواصل بين بيته وبيت أبي يوسف درب متميز، أنفق أياماً في هندسته، واقتلاع أشواكه حتى غدا خالياً من الشوك، حنوناً تحيط به الأغصان.
أبو يوسف في أيام نادرة، يزور ابن الأحمد... يترك مصطبة التوتة وينطلق باتجاه بيت ابن الأحمد.
من بعيد نظر سلمان إلى بيت ابن الأحمد فألفى سمراً منشغلة بغسل الصحون وألفى رباباً قد حملت الجرة وانطلقت إلى نبع ساقية المراعي حيث الدلباب، ونظر إلى بيت أبي يوسف فألفى أبا يوسف يمشي وئيداً باتجاه المساء وبيوت الجيران، وألفى بيت ابن الحمودة المجاور لبيت أبي يوسف يغرق شيئاً فشيئاً في غبش المساء.
قالت سمر في نفسها:
"لو نجلس أنا وسلمان عند أبي يوسف... ونسمع أحاديثه، ونعاين وجهه وملامحه ونمتلئ بصوته ورائحة شجرة التوت ومساءاتها"...
كم أتمنى أن يهرب بي المساء إلى مصطبة أبي يوسف وشجرة التوت، فأستريح من قسوة والدي وغضبه"...
يئس أخيراً سلمان من أن يعود ثانية إلى حيث سمر أمام البيت، وصوت والدها ينشر الخوف في أرجاء نفسها، واتجه غرباً إلى جهة بيت أبي يوسف، ومنه إلى حيث يشاء. شاهدت سمر سلماناً وهو يمشي متحيراً باتجاه بيت أبي يوسف وشجرة التوت... وشاهدت البيوت وهي تغرق في ظلمة العشاء، وبقي صوت والدها ينشر الخوف حولها كسياج من الأشواك متين...
أصوات قليلة بقيت تخرج من أنفاس ليل قرية شجرة التوت... وبقيت سمر تسمعها وترى الطيور وهي تتجه مسرعة إلى أعشاشها...
قالت لأمها وهي تتجه إلى المصطبة:
-ألم تري بيت أبي يوسف إنه لا يختفي في الليل، لأن شجرة التوت تبقى واضحة وضوء سراجه يبقى متوهجاً... وصوت أبي يوسف يبقى مسموعاً.
-أبو يوسف وشجرة التوت من أقدم الذين عاشوا في قريتنا يا سمر... وأنا أعرف أبا يوسف... إنه أحسن من أم يوسف بألف مرة.
-كادت سمر تضحك لكنها كتمت ضحكتها، خوف أن يسمعها والدها وهي تضحك فيطلق صوته عبر الأفق فيذهب بهجة حديثها مع أمها عن أبي يوسف.
قالت أمها:
هل شاهدت أم يوسف وهي تلم البيض أو وهي تصف حاجات الناس... إنها تسبب البلوى بين الناس... إنها يوم تزورنا تسبب لي الشقاء، لأنها تصف أشياءنا بأنها لا نفع منها، وتقول لوالدك: ما هذا البساط؟... لماذا أخطأت زوجتك بشبكه، وما هذه الطراحة، وما هذه المخدة؟.. وتبقى تسأل حتى تسبب الخلاف بيني وبين والدك.
-هل نجحت سمر في صفها يا سلمان؟.
-سمر لا ترسب في أي صف من صفوف المدرسة، ولولا قسوة والدها لكانت الأولى في المدرسة يا حسان.
-وأنت ألم تنجح؟
-حتى الآن لم تظهر نتائج امتحاناتنا.
دار هذا الحديث بين حسان وسلمان وهما يتقدمان من جهة السد باتجاه بيوت القرية. بيت سمر هو أول بيت يظهر للقادم من جهة السد.. قال حسان:
هاقد وصلنا إلى جهة بيت ابن الأحمد لكن سمراً ليست موجودة على المصطبة يا سلمان؟!.
تكون ذهبت لزيارة أختها التي في المدينة.
أختها الكبيرة جوهرة؟؟
-هكذا قالت لي في الأمس... قالت لي: سأزور أختي الكبيرة جوهرة وربما أنام عندها إذا سمح لي والدي.
أنا لم أشاهد أختها جوهرة إلا مرتين، مرة كانت تزوركم ومرة كانت تزور أم يوسف...
-هل سمعت أوصاف أم يوسف لها عندما تزورها وتحضر لها المأكولات والثياب؟
-لا لم أسمعها.
أنا سمعتها مرة وهي تحكي لزوجة ابن الحمودة. كنت جالساً عند أبي يوسف تحت أغصان التوتة وكانت أم يوسف وزوجة ابن الحمودة جالستين في البيت، قرب العمود الكبير.... يومها قالت أم يوسف لزوجة ابن الحمودة: ضيع ابن الأحمد بقسوته بناته: جوهرة من أجمل البنات لكنها هربت من والدها وتزوجت رجلاً معمراً، ليحميها ويؤمن لها مصاريفها، وبقيت فترة طويلة لا تزور القرية، ثم سمح لها والدها بزيارة البيت.
وأنت يا سلمان ألا تخاف على سمر من أن تضيع مثل جوهرة؟
أطرق سلمان إطراقة المحاصر بالأسى والخيبة ولم يتكلم.
قال حسان:
انظر إلى شجرة أبي يوسف إنها تفرش أغصانها فوق المصطبة وسطح البيت وفوق الدرب، وتكاد أن تصل إلى شجرات التين التي في أرضنا.
والأكثر من هذا أنها تجمع الجيران وتلم البعيدين منهم والقريبين.
أتصور أن أغصانها ستصل ذات يوم إلى جدار بيت ابن الحمودة الجنوبي.
نحن نذكر شجرة التوت وأبا يوسف وبيت ابن الحمودة، وزوجة ابن الحمودة عند أم يوسف تحت التوتة.
نظر سلمان إلى جهة التوتة فظهرت لـه زوجة ابن الحمودة بخمارها الضارب إلى السواد وظهر منديل أم يوسف وقد قمطت رأسها به بطريقة هندسية متداخلة، لا يدركها إلا أم يوسف وبعض نساء القرية، وظهرت الدجاجات تسرح في ساحة البيت بحثاً عن حبات القمح، والجرة الكبيرة المستندة إلى حائط الساحة الغربي.
قالت أم يوسف:
رائحة ماء هذا السد لا تريح البال...
-أنا مثلك أشم رائحة سيئة تجيء من جهته...
قالت لي زوجة ابن الأحمد إنها رأت فيه أفاعي سوداء.
-ماذا يمكننا أن نفعل مع السد والأفاعي إلا الحذر والخوف من القدر؟!.
لم تكمل أم يوسف وزوجة ابن الحمودة حديثهما لأن صوت ابن الحمودة قطع عليهما متابعة الكلام إذ نادى زوجته...
-أنا سأذهب يا أم يوسف، لأن ابن الحمودة يكون جائعاً أو يكون معه ضيوف... زمّت أم يوسف شفتيها ونطقت كلمة أو أ كثر في وداع زوجة ابن الحمودة، وعادت إلى جلستها... مدت يدها إلى منديلها، لتتأكد من سلامة ربطته... ثم انحرفت قليلاً باتجاه ساحة البيت لتعاين واقع حال الدجاجات.
صوت ابن الأحمد أفزع أم يوسف، ومشت عبر دريب البيت المحاط بجذع التوتة وحفاف المصطبة وحفاف الأرض، وانطلقت عبر الدرب المتجه شرقاً... لتخبر زهوة بخبر وصول ابن الأحمد إلى الساقية...
وقفت أم يوسف عند طرف البيت الشرقي فلمحت زهوة خارجة من باب السياج الخشبي... قالت في نفسها: سمعت زهوة صوت ابن الأحمد... وهل يبقى أحد في القرية لا يسمح صوته إذا نادى...
وجود شجرة التوت في القرية علامة خير لكل الجيران، تحت أغصانها يجتمعون، يحكون حكايات حياتهم... ويشربون الشاي وماء النبع البارد... شجرة التوت البرية ليست شجرة عادية. تتبدى للناس في حالات مختلفة، ولكل حالة دلالة بعيدة ووقع عميق في القرية... إن بدت خضراء، فذلك دلالة خير وإن بدت شاحبة ذابلة فذلك نذير سوء...
ابن الصبرة نظر إليها من أرضه المجاورة للساقية فألفى أغصانها ذابلة.
قال لزوجته:
-يا أم محمود... أنا خائف هذا اليوم.
-لماذا أنت خائف... البقرات بخير والدجاجات لم يصبها مرض الخناق... وشجرات الزيتون جيدة الحمل هذا العام؟
-لا أدري ما سبب خوفي... منذ شاهدت شجرة أبي يوسف ذابلة؟!.
-طول بالك يا أبا محمود واحمد حظك ودنياك.
بيت ابن الصبرة يشرف على الساقية القادمة من المراعي، ومن أمام مصطبته يمر الدرب المنطلق من الساقية إلى بيت ابن الصالح وبقية البيوت القريبة...
جلس ابن الصبرة على المصطبة، وأسند رأسه إلى وسادة عالية، بينما أم محمود ذهبت بالبقرات إلى الساقية لتسقيها...
فكّت حبال البقرات من شجرات التوت والزنزلخت وأطلقت لها العنان شرقاً نحو نبع الساقية... تذكرت كلمات زوجها عن شجرة التوت وأبي يوسف "أنا خائف يا أم محمود من ذبول أغصان التوتة".
نظرت أم محمود إلى جهة بيت أبي يوسف فلمحت أبا يوسف قادماً باتجاه المصطبة، ولمحت زوجة ابن الحمودة قرب الدرب، ولمحت أم يوسف وهي تميل ميلاتها المعهودة وسمعت صوتها تنادي الدجاجات:
تعاه... تعاه... تعاه...
بوزهره... بوزهره... بوزهره...
الدرب الواصل بين بيته وبيت أبي يوسف درب متميز، أنفق أياماً في هندسته، واقتلاع أشواكه حتى غدا خالياً من الشوك، حنوناً تحيط به الأغصان.
أبو يوسف في أيام نادرة، يزور ابن الأحمد... يترك مصطبة التوتة وينطلق باتجاه بيت ابن الأحمد.
من بعيد نظر سلمان إلى بيت ابن الأحمد فألفى سمراً منشغلة بغسل الصحون وألفى رباباً قد حملت الجرة وانطلقت إلى نبع ساقية المراعي حيث الدلباب، ونظر إلى بيت أبي يوسف فألفى أبا يوسف يمشي وئيداً باتجاه المساء وبيوت الجيران، وألفى بيت ابن الحمودة المجاور لبيت أبي يوسف يغرق شيئاً فشيئاً في غبش المساء.
قالت سمر في نفسها:
"لو نجلس أنا وسلمان عند أبي يوسف... ونسمع أحاديثه، ونعاين وجهه وملامحه ونمتلئ بصوته ورائحة شجرة التوت ومساءاتها"...
كم أتمنى أن يهرب بي المساء إلى مصطبة أبي يوسف وشجرة التوت، فأستريح من قسوة والدي وغضبه"...
يئس أخيراً سلمان من أن يعود ثانية إلى حيث سمر أمام البيت، وصوت والدها ينشر الخوف في أرجاء نفسها، واتجه غرباً إلى جهة بيت أبي يوسف، ومنه إلى حيث يشاء. شاهدت سمر سلماناً وهو يمشي متحيراً باتجاه بيت أبي يوسف وشجرة التوت... وشاهدت البيوت وهي تغرق في ظلمة العشاء، وبقي صوت والدها ينشر الخوف حولها كسياج من الأشواك متين...
أصوات قليلة بقيت تخرج من أنفاس ليل قرية شجرة التوت... وبقيت سمر تسمعها وترى الطيور وهي تتجه مسرعة إلى أعشاشها...
قالت لأمها وهي تتجه إلى المصطبة:
-ألم تري بيت أبي يوسف إنه لا يختفي في الليل، لأن شجرة التوت تبقى واضحة وضوء سراجه يبقى متوهجاً... وصوت أبي يوسف يبقى مسموعاً.
-أبو يوسف وشجرة التوت من أقدم الذين عاشوا في قريتنا يا سمر... وأنا أعرف أبا يوسف... إنه أحسن من أم يوسف بألف مرة.
-كادت سمر تضحك لكنها كتمت ضحكتها، خوف أن يسمعها والدها وهي تضحك فيطلق صوته عبر الأفق فيذهب بهجة حديثها مع أمها عن أبي يوسف.
قالت أمها:
هل شاهدت أم يوسف وهي تلم البيض أو وهي تصف حاجات الناس... إنها تسبب البلوى بين الناس... إنها يوم تزورنا تسبب لي الشقاء، لأنها تصف أشياءنا بأنها لا نفع منها، وتقول لوالدك: ما هذا البساط؟... لماذا أخطأت زوجتك بشبكه، وما هذه الطراحة، وما هذه المخدة؟.. وتبقى تسأل حتى تسبب الخلاف بيني وبين والدك.
* * *
-هل نجحت سمر في صفها يا سلمان؟.
-سمر لا ترسب في أي صف من صفوف المدرسة، ولولا قسوة والدها لكانت الأولى في المدرسة يا حسان.
-وأنت ألم تنجح؟
-حتى الآن لم تظهر نتائج امتحاناتنا.
دار هذا الحديث بين حسان وسلمان وهما يتقدمان من جهة السد باتجاه بيوت القرية. بيت سمر هو أول بيت يظهر للقادم من جهة السد.. قال حسان:
هاقد وصلنا إلى جهة بيت ابن الأحمد لكن سمراً ليست موجودة على المصطبة يا سلمان؟!.
تكون ذهبت لزيارة أختها التي في المدينة.
أختها الكبيرة جوهرة؟؟
-هكذا قالت لي في الأمس... قالت لي: سأزور أختي الكبيرة جوهرة وربما أنام عندها إذا سمح لي والدي.
أنا لم أشاهد أختها جوهرة إلا مرتين، مرة كانت تزوركم ومرة كانت تزور أم يوسف...
-هل سمعت أوصاف أم يوسف لها عندما تزورها وتحضر لها المأكولات والثياب؟
-لا لم أسمعها.
أنا سمعتها مرة وهي تحكي لزوجة ابن الحمودة. كنت جالساً عند أبي يوسف تحت أغصان التوتة وكانت أم يوسف وزوجة ابن الحمودة جالستين في البيت، قرب العمود الكبير.... يومها قالت أم يوسف لزوجة ابن الحمودة: ضيع ابن الأحمد بقسوته بناته: جوهرة من أجمل البنات لكنها هربت من والدها وتزوجت رجلاً معمراً، ليحميها ويؤمن لها مصاريفها، وبقيت فترة طويلة لا تزور القرية، ثم سمح لها والدها بزيارة البيت.
وأنت يا سلمان ألا تخاف على سمر من أن تضيع مثل جوهرة؟
أطرق سلمان إطراقة المحاصر بالأسى والخيبة ولم يتكلم.
قال حسان:
انظر إلى شجرة أبي يوسف إنها تفرش أغصانها فوق المصطبة وسطح البيت وفوق الدرب، وتكاد أن تصل إلى شجرات التين التي في أرضنا.
والأكثر من هذا أنها تجمع الجيران وتلم البعيدين منهم والقريبين.
أتصور أن أغصانها ستصل ذات يوم إلى جدار بيت ابن الحمودة الجنوبي.
نحن نذكر شجرة التوت وأبا يوسف وبيت ابن الحمودة، وزوجة ابن الحمودة عند أم يوسف تحت التوتة.
نظر سلمان إلى جهة التوتة فظهرت لـه زوجة ابن الحمودة بخمارها الضارب إلى السواد وظهر منديل أم يوسف وقد قمطت رأسها به بطريقة هندسية متداخلة، لا يدركها إلا أم يوسف وبعض نساء القرية، وظهرت الدجاجات تسرح في ساحة البيت بحثاً عن حبات القمح، والجرة الكبيرة المستندة إلى حائط الساحة الغربي.
قالت أم يوسف:
رائحة ماء هذا السد لا تريح البال...
-أنا مثلك أشم رائحة سيئة تجيء من جهته...
قالت لي زوجة ابن الأحمد إنها رأت فيه أفاعي سوداء.
-ماذا يمكننا أن نفعل مع السد والأفاعي إلا الحذر والخوف من القدر؟!.
لم تكمل أم يوسف وزوجة ابن الحمودة حديثهما لأن صوت ابن الحمودة قطع عليهما متابعة الكلام إذ نادى زوجته...
-أنا سأذهب يا أم يوسف، لأن ابن الحمودة يكون جائعاً أو يكون معه ضيوف... زمّت أم يوسف شفتيها ونطقت كلمة أو أ كثر في وداع زوجة ابن الحمودة، وعادت إلى جلستها... مدت يدها إلى منديلها، لتتأكد من سلامة ربطته... ثم انحرفت قليلاً باتجاه ساحة البيت لتعاين واقع حال الدجاجات.
صوت ابن الأحمد أفزع أم يوسف، ومشت عبر دريب البيت المحاط بجذع التوتة وحفاف المصطبة وحفاف الأرض، وانطلقت عبر الدرب المتجه شرقاً... لتخبر زهوة بخبر وصول ابن الأحمد إلى الساقية...
وقفت أم يوسف عند طرف البيت الشرقي فلمحت زهوة خارجة من باب السياج الخشبي... قالت في نفسها: سمعت زهوة صوت ابن الأحمد... وهل يبقى أحد في القرية لا يسمح صوته إذا نادى...
* * *
وجود شجرة التوت في القرية علامة خير لكل الجيران، تحت أغصانها يجتمعون، يحكون حكايات حياتهم... ويشربون الشاي وماء النبع البارد... شجرة التوت البرية ليست شجرة عادية. تتبدى للناس في حالات مختلفة، ولكل حالة دلالة بعيدة ووقع عميق في القرية... إن بدت خضراء، فذلك دلالة خير وإن بدت شاحبة ذابلة فذلك نذير سوء...
ابن الصبرة نظر إليها من أرضه المجاورة للساقية فألفى أغصانها ذابلة.
قال لزوجته:
-يا أم محمود... أنا خائف هذا اليوم.
-لماذا أنت خائف... البقرات بخير والدجاجات لم يصبها مرض الخناق... وشجرات الزيتون جيدة الحمل هذا العام؟
-لا أدري ما سبب خوفي... منذ شاهدت شجرة أبي يوسف ذابلة؟!.
-طول بالك يا أبا محمود واحمد حظك ودنياك.
بيت ابن الصبرة يشرف على الساقية القادمة من المراعي، ومن أمام مصطبته يمر الدرب المنطلق من الساقية إلى بيت ابن الصالح وبقية البيوت القريبة...
جلس ابن الصبرة على المصطبة، وأسند رأسه إلى وسادة عالية، بينما أم محمود ذهبت بالبقرات إلى الساقية لتسقيها...
فكّت حبال البقرات من شجرات التوت والزنزلخت وأطلقت لها العنان شرقاً نحو نبع الساقية... تذكرت كلمات زوجها عن شجرة التوت وأبي يوسف "أنا خائف يا أم محمود من ذبول أغصان التوتة".
نظرت أم محمود إلى جهة بيت أبي يوسف فلمحت أبا يوسف قادماً باتجاه المصطبة، ولمحت زوجة ابن الحمودة قرب الدرب، ولمحت أم يوسف وهي تميل ميلاتها المعهودة وسمعت صوتها تنادي الدجاجات:
تعاه... تعاه... تعاه...
بوزهره... بوزهره... بوزهره...
ريانية العود- إدارة
- عدد المساهمات : 17871
تاريخ التسجيل : 15/01/2011
الموقع : قلب قطر
رد: شجرة التوت... حسين عبد الكريم...رواية
وسمعت صوت زهوة زوجة ابن الأحمد وصوت بنتها سمر ورأت ابن الأحمد وهو يخرج من باب السياج الخشبي ويتجه غرباً إلى مصطبة أبي يوسف... شجرة توت أبي يوسف تظهر جيداً لكل الجيران، ويظهر الجالسون على مصطبتها، وتظهر الدجاجات التي تسرح في ساحة البيت إلى جوارها، لأن أرضها مرتفعة ومشرفة على البيوت والكروم... أم محمود شاقها أن تسقي البقرات، وتربطها وتنطلق بعد ذلك إلى مصطبة شجرة التوت وتقشر بعض القمح في الجرن، وتسمع أحاديث القرية وتطمئن إلى سلامة حال شجرة التوت.
غفا ابن الصبرة غفوة سريعة، لكنها قلقة ومزعجة، إذا ازدحمت رأسه بالرؤى المخيفة... رأى نفسه وسط المرعى ومعه بقراته، وإذ بوحش يهجم عليه وعلى بقراته، ولولا أنه رأى أبا يوسف مصادفة لقتله الوحش وقتل بقراته.
استيقظ خائفاً، نظر حوله ونظر إلى البقرات، فلم يجدها، فاعتقد أنها سرقت أو قتلت، لكنه اطمأن عندما رأى أم محمود تعود بها من الساقية.
أسند ابن الأحمد ظهره إلى الحائط، بعد أن وضع لفافة الدخان العريضة في فمه... قطَّب حاجبيه وقال:
-هل تعلم يا أبا يوسف أن رائحة السد قاسية جداً؟!
رد ابن الحمودة مؤكداً:
-فعلاً رائحة سيئة وصعبة المعاشرة كما يقول ابن الأحمد.
قال أبو يوسف:
-هذا قدر حلّ بقريتنا.
نظر ابن الأحمد إلى جهة الساحة، فرأى بعض دجاجات أم يوسف تسرح في جهات الساحة. نحنحة الحمامات والأفراخ في أعشاشها فوق العتبة كانت تؤنس صمت الجالسين، وتعطي الهاجرة تحت أغصان شجرة التوت نكهة حنونة.
قال ابن الحمودة:
في الليل الفائت سمعت صوتك وخفت من أن تكون غضبت على بنتك سمر، وفكرت بأن أدق الباب على أبي يوسف من أجل ذلك.
-لا لم أكن غاضباً على سمر ولا على زهوة... بل كنت غاضباً على /بوزهره/.
قال ابن الحمودة مندهشاً:
اوف اوف اوف... من شر /بوزهره)... إنه لعنة لا تنتهي.
منذ يومين وأنا أمشي قرب الساقية والمراعي لمحت عدداً من /بوزهره) وخفت على دجاجات أم يوسف يومها وخفت على دجاجات كل الجيران، ويومها عدت مسرعاً إلى البيت لأطمئن على حال الدجاجات. ابن الأحمد نأى بهواجسه عن أبي يوسف وابن الحمودة، عاد إلى كلمات ابن الحمودة: "خفت من أن تكون غاضباً على سمر" وقال في سره: "وماذا يعني ابن الحمودة أغضبت أم لم أغضب على سمر... وما علاقته بذلك؟؟.. وهل يعقل أن غضبي على أولادي صار حكاية الجيران؟!".
مد ابن الحمودة يده إلى علبة دخان أبي يوسف، أخذ منها ورقة بيضاء ناعمة الملمس، وملأها بالدخان ولفها، وجعلها بين شفتيه، وأشعلها... سحب منها نفساً عميقاً، ثم حرك عجيزته لتستقيم جلسته على حصير المصطبة:
نظر إلى أرض شجرة التوت المزروعة بالتبغ:
-دخان أرضك قليل يا أبا يوسف!
-أنا وأم يوسف يكفينا أي شيء.
-ابن الأحمد لم يزرع هذه السنة إلا البندورة...
قال أبو يوسف:
-شجرات مشمش ابن الأحمد ترد عليه بموسمها هذه السنة ما يكفيه ويكفي زوجته والأولاد.
قال ابن الحمودة:
-أنا سمعت من أم يوسف أن جوهرة بنتك الكبيرة ستأخذ سمراً لتدرس عندها في المدينة؟!.
-يا ابن الحمودة... أعطني علبة دخانك، لألف سيكارة، واسترح من قصة سمر وجوهرة وغضبي.
-تفضل... جرّب دخان علبتي.
قدّم ابن الحمودة علبة دخانه... وسكت... لأن كلمات ابن الأحمد جاءت قاسية عليه فأسكتته... لم تستمر جلسة ابن الأحمد وابن الحمودة عند أبي يوسف هانئة مطمئنة، لأن صوت ابن الصبرة جاء قوياً ومباغتاً ومعذباً:
ثعلب/ بوزهره/ قتل نصف دجاجاتنا.
أقبل الصبح ثقيلاً حاراً، وشجرات مشمش ابن الأحمد أثقلها اصفرار ثمارها... فراحت تتساقط بفعل الحر الشديد.
جمعت سمر ثيابها القليلة في حقيبة سوداء صغيرة، وارتدت ثوبها الزهري فبدت بهية نضرة، وسرحت شعرها الطويل فكاد يصل إلى عجيزتها...
قالت لوالدها:
-أنا ذاهبة... ماذا توصيني؟
-خذي معك سلة المشمش لأختك جوهرة، وارجعي بعد أسبوع إلينا...
شاهدت قرية شجرة التوت سمراً وهي تخرج من باب السياج الخشبي وفي يديها سلة ملأى بالمشمش وحقيبة جمعت ثيابها بها... نسيت سمر أن تودع أبا يوسف وشجرة التوت، حتى إنّ أم يوسف قالت لزهوة عندما علمت بعد يومين بذهاب سمر:
-تمنيت أن تمر سمر عليّ، لأعطيها البيضات التي جمعتها لتأخذها لجوهرة.
-سترجع إلى البيت بعد أيام معدودة.
-أبو يوسف ليس هنا اليوم أين هو؟؟.
-قد يكون ذهب إلى دكان بوحمود أو يكون قصد بيوت الأولاد في المدينة... ليستطلع أخبارهم.
أولاد أبي يوسف عاشوا في البيت الترابي، حتى كبروا، وسارت أمورهم على ما يرام، وتزوجوا، فتركوا البيت الترابي، وسكنوا بيوتاً أو غرفاً ضيقة في المدينة نزولاً عند رغبة زوجاتهم... المصونات... لكن أبا يوسف منذ البدء أكّد لهم أنه لن يترك شجرة التوت والمصطبة والبيت الترابي... وهو غني عن بيوتهم وعيشهم في المدينة...
عادت أم يوسف إلى انشغالها بإطعام الدجاجات... وبالبحث عن أفراخ الحمام: أهي موجودة في أعشاشها أو طارت في أرجاء البيت، أو أن أبا يوسف ذبح بعضها وأطعمه لجيرانه، أو أخذه دون معرفتها لأولاده في المدينة؟.
زهوة زوجة ابن الأحمد جلست على المصطبة وأسندت ظهرها إلى جذع التوتة... لكنها لم تبقَ وحيدة لأن زوجة ابن الحمودة وصلت...
-شايفتك هنا اليوم... ابن الأحمد ليس في البيت.
-ابن الأحمد في المدينة يشتري بعض الأغراض والحاجات.
-قال لي ابن الحمودة: إن سمراً ذهبت إلى بيت أختها جوهرة؟!.
-ذهبت من يومين وستعود بعد أيام.
جوهرة لم تأخذ سمراً من أجل الدراسة... بل من أجل أمر آخر رتّبته في ذهنها جيداً... وسلسلت أحداثه قبل حدوثها...
الحياة علّمت جوهرة أن الغيوم لا تمطر إلا في الفصول الغنية بالمواسم، وعلّمتها أن العيش في بيت والدها أمرُّ من الشقاء، وأن المرأة الجميلة يجب أن تتزوج رجلاً غنياً لينفق عليها كما تشاء...
غفا ابن الصبرة غفوة سريعة، لكنها قلقة ومزعجة، إذا ازدحمت رأسه بالرؤى المخيفة... رأى نفسه وسط المرعى ومعه بقراته، وإذ بوحش يهجم عليه وعلى بقراته، ولولا أنه رأى أبا يوسف مصادفة لقتله الوحش وقتل بقراته.
استيقظ خائفاً، نظر حوله ونظر إلى البقرات، فلم يجدها، فاعتقد أنها سرقت أو قتلت، لكنه اطمأن عندما رأى أم محمود تعود بها من الساقية.
أسند ابن الأحمد ظهره إلى الحائط، بعد أن وضع لفافة الدخان العريضة في فمه... قطَّب حاجبيه وقال:
-هل تعلم يا أبا يوسف أن رائحة السد قاسية جداً؟!
رد ابن الحمودة مؤكداً:
-فعلاً رائحة سيئة وصعبة المعاشرة كما يقول ابن الأحمد.
قال أبو يوسف:
-هذا قدر حلّ بقريتنا.
نظر ابن الأحمد إلى جهة الساحة، فرأى بعض دجاجات أم يوسف تسرح في جهات الساحة. نحنحة الحمامات والأفراخ في أعشاشها فوق العتبة كانت تؤنس صمت الجالسين، وتعطي الهاجرة تحت أغصان شجرة التوت نكهة حنونة.
قال ابن الحمودة:
في الليل الفائت سمعت صوتك وخفت من أن تكون غضبت على بنتك سمر، وفكرت بأن أدق الباب على أبي يوسف من أجل ذلك.
-لا لم أكن غاضباً على سمر ولا على زهوة... بل كنت غاضباً على /بوزهره/.
قال ابن الحمودة مندهشاً:
اوف اوف اوف... من شر /بوزهره)... إنه لعنة لا تنتهي.
منذ يومين وأنا أمشي قرب الساقية والمراعي لمحت عدداً من /بوزهره) وخفت على دجاجات أم يوسف يومها وخفت على دجاجات كل الجيران، ويومها عدت مسرعاً إلى البيت لأطمئن على حال الدجاجات. ابن الأحمد نأى بهواجسه عن أبي يوسف وابن الحمودة، عاد إلى كلمات ابن الحمودة: "خفت من أن تكون غاضباً على سمر" وقال في سره: "وماذا يعني ابن الحمودة أغضبت أم لم أغضب على سمر... وما علاقته بذلك؟؟.. وهل يعقل أن غضبي على أولادي صار حكاية الجيران؟!".
مد ابن الحمودة يده إلى علبة دخان أبي يوسف، أخذ منها ورقة بيضاء ناعمة الملمس، وملأها بالدخان ولفها، وجعلها بين شفتيه، وأشعلها... سحب منها نفساً عميقاً، ثم حرك عجيزته لتستقيم جلسته على حصير المصطبة:
نظر إلى أرض شجرة التوت المزروعة بالتبغ:
-دخان أرضك قليل يا أبا يوسف!
-أنا وأم يوسف يكفينا أي شيء.
-ابن الأحمد لم يزرع هذه السنة إلا البندورة...
قال أبو يوسف:
-شجرات مشمش ابن الأحمد ترد عليه بموسمها هذه السنة ما يكفيه ويكفي زوجته والأولاد.
قال ابن الحمودة:
-أنا سمعت من أم يوسف أن جوهرة بنتك الكبيرة ستأخذ سمراً لتدرس عندها في المدينة؟!.
-يا ابن الحمودة... أعطني علبة دخانك، لألف سيكارة، واسترح من قصة سمر وجوهرة وغضبي.
-تفضل... جرّب دخان علبتي.
قدّم ابن الحمودة علبة دخانه... وسكت... لأن كلمات ابن الأحمد جاءت قاسية عليه فأسكتته... لم تستمر جلسة ابن الأحمد وابن الحمودة عند أبي يوسف هانئة مطمئنة، لأن صوت ابن الصبرة جاء قوياً ومباغتاً ومعذباً:
ثعلب/ بوزهره/ قتل نصف دجاجاتنا.
***
أقبل الصبح ثقيلاً حاراً، وشجرات مشمش ابن الأحمد أثقلها اصفرار ثمارها... فراحت تتساقط بفعل الحر الشديد.
جمعت سمر ثيابها القليلة في حقيبة سوداء صغيرة، وارتدت ثوبها الزهري فبدت بهية نضرة، وسرحت شعرها الطويل فكاد يصل إلى عجيزتها...
قالت لوالدها:
-أنا ذاهبة... ماذا توصيني؟
-خذي معك سلة المشمش لأختك جوهرة، وارجعي بعد أسبوع إلينا...
شاهدت قرية شجرة التوت سمراً وهي تخرج من باب السياج الخشبي وفي يديها سلة ملأى بالمشمش وحقيبة جمعت ثيابها بها... نسيت سمر أن تودع أبا يوسف وشجرة التوت، حتى إنّ أم يوسف قالت لزهوة عندما علمت بعد يومين بذهاب سمر:
-تمنيت أن تمر سمر عليّ، لأعطيها البيضات التي جمعتها لتأخذها لجوهرة.
-سترجع إلى البيت بعد أيام معدودة.
-أبو يوسف ليس هنا اليوم أين هو؟؟.
-قد يكون ذهب إلى دكان بوحمود أو يكون قصد بيوت الأولاد في المدينة... ليستطلع أخبارهم.
أولاد أبي يوسف عاشوا في البيت الترابي، حتى كبروا، وسارت أمورهم على ما يرام، وتزوجوا، فتركوا البيت الترابي، وسكنوا بيوتاً أو غرفاً ضيقة في المدينة نزولاً عند رغبة زوجاتهم... المصونات... لكن أبا يوسف منذ البدء أكّد لهم أنه لن يترك شجرة التوت والمصطبة والبيت الترابي... وهو غني عن بيوتهم وعيشهم في المدينة...
عادت أم يوسف إلى انشغالها بإطعام الدجاجات... وبالبحث عن أفراخ الحمام: أهي موجودة في أعشاشها أو طارت في أرجاء البيت، أو أن أبا يوسف ذبح بعضها وأطعمه لجيرانه، أو أخذه دون معرفتها لأولاده في المدينة؟.
زهوة زوجة ابن الأحمد جلست على المصطبة وأسندت ظهرها إلى جذع التوتة... لكنها لم تبقَ وحيدة لأن زوجة ابن الحمودة وصلت...
-شايفتك هنا اليوم... ابن الأحمد ليس في البيت.
-ابن الأحمد في المدينة يشتري بعض الأغراض والحاجات.
-قال لي ابن الحمودة: إن سمراً ذهبت إلى بيت أختها جوهرة؟!.
-ذهبت من يومين وستعود بعد أيام.
جوهرة لم تأخذ سمراً من أجل الدراسة... بل من أجل أمر آخر رتّبته في ذهنها جيداً... وسلسلت أحداثه قبل حدوثها...
الحياة علّمت جوهرة أن الغيوم لا تمطر إلا في الفصول الغنية بالمواسم، وعلّمتها أن العيش في بيت والدها أمرُّ من الشقاء، وأن المرأة الجميلة يجب أن تتزوج رجلاً غنياً لينفق عليها كما تشاء...
ريانية العود- إدارة
- عدد المساهمات : 17871
تاريخ التسجيل : 15/01/2011
الموقع : قلب قطر
رد: شجرة التوت... حسين عبد الكريم...رواية
منذ اليوم الأول قالت لسمر:
-اهتمي بنفسك جيداً... واشترت لها بعض الثياب، وحاولت أن تشعرها بأن الحياة في المدينة نعمة لا بعدها ولا قبلها... لكن روح سمر لم تستطع أن تعشق المدينة بسرعة، وبقيت شجرة التوت تشدها بألف خيط... وبقي أبو يوسف وحكاياته وأيامه ملء خيالها...
في اليوم الثالث سألت جوهرة أختها:
كيف ترين الحياة هنا يا سمر؟؟ ألم تفرحي بحياتنا في المدينة؟؟.
صمتت سمر... ولم تجب حتى بالإشارات...
-عادت جوهرة وسألتها:
-مالك ساكتة هكذا... قولي لي، ألم تعجبك حياتي؟؟.
-لا أعرف يا جوهرة إن كانت حياتك تعجبني أو لا تعجبني، أنا الآن أتمنى أن أعود إلى القرية.
-أنت لا تعرفين الحياة ولا تعرفين كيف يعيش الناس.
-أنا الآن أفكر في حياة قريتنا، وأذكر أبا يوسف وشجرة التوت، وأتمنى لو أنني ودّعته، وودّعت أم يوسف وكل الجيران... أنا خائفة يا جوهرة...
-من ماذا خائفة؟؟.
-لا أعرف... لكنني أتمنى لو أنني جلست عند أبي يوسف وسمعت حكاياته قبل أن أجيء إلى عندك. سكتت جوهرة، ولم تضف أية كلمة، لأنها تعرف أبا يوسف، وتعرف شجرة التوت الواسعة التي أمام بيته، وتعرف أم يوسف وتزورها كلما قصدت القرية، لكنها لم تألفه ولم تتعلق به كما تعلقت به سمر... قالت في نفسها:
"أبو يوسف –فعلاً- عجوز حنون، عشرته حنونة، وشجرته حنونة، لكن الزواج من الأغنياء يخلص المرأة من الحاجة".
عادت سمر إلى الحديث:
أنت يا جوهرة غبت عن القرية منذ سنوات طويلة، وقد تكونين نسيت أبا يوسف وشجرة التوت، أمّا أنا فلم أنسَ لا أبا يوسف ولا شجرة التوت... أنا أتمنى أن أجلس عند أبي يوسف يوماً كاملاً، استمع لـه وهو يحكي عن أيامه وشغله، وسفره وفلاحته، وعن أم يوسف وأيامها معه، وعن الينابيع والأشجار والطيور.
أبو يوسف إلى اليوم يخبئ البيضات عن أم يوسف ويعطيها للأولاد، ويعطيهم الفرنكات... ويجلسهم على مصطبته في الهواجر والمساءات...
إنه يشبه نبع الساقية عندما يتدفق في الصيف... وليت أبي مثله... ليته يكون رحيماً بنا، ليته لم يشرّدنا كأوراق غصن يابس... ليته كان كأبي يوسف، وليت أشجارنا كشجرته، لكان رحمنا من البؤس والضياع والعار...
قالت جوهرة بحسرة:
-آه يا سمر... أراك كبرت بسرعة، وأراك تفهّمت وضع حياتنا مع والدنا بشكل جيد... المدرسة علّمتك ونفعتك...
كان البحر لطيفاً كأطفال يلعبون مع الريح، وكانت رائحة ذكريات قرية شجرة التوت ملء أنفاس جوهرة وسمر... وكان الصيف مزدحماً بالناس والمساء، لكن سمراً وجوهرة بقيتا في دنيا شجرة التوت وأبي يوسف وأيام العيش المريرة... عادت جوهرة إلى حديثها:
أنت يا سمر تعلمت في المدرسة، ونجحت، أما أنا فلم أقترب من المدرسة، ولم أحمل دفتراً أو كتاباً في حياتي... أيامي مع والدي كانت أقسى من أيامك ويومها كانت شجرة التوت وكان بيت أبي يوسف، لكن أبا يوسف كان مسافراً... مرت علي أيام وليال لم أجرؤ على النوم في البيت خوفاً من والدي، كنت أحاول الذهاب إلى بيت أبي يوسف لأنام عند أم يوسف، لكن أم يوسف ليست كأبي يوسف، لتحميني وتساعدني... أذكر إلى اليوم أنني في يوم من أيام البرد والمطر خفت من والدي، فلم أرجع إلى البيت، وذلك لأمر بسيط يتعلق بسلة مشمش... في الليل ذهبت إلى عند أم يوسف، كانت وحيدة في البيت... نمت عندها على المصطبة الداخلية، لكنها في اليوم الثاني ذهبت إلى والدي وراحت تنصحه وتحضّه على ضربي وإزعاجي وطردي من البيت...
قالت سمر:
-حياتنا مع والدي صعبة يا جوهرة... لكنك أنت أخذت أكبر نصيب من عذاب العيش معه.
عادت جوهرة إلى الحديث:
-تصوري يا سمر رغم أن أم يوسف كانت توصي والدي وتنصحه بأن يضربني ويطردني فقد أزورها وأحمل لها الأغراض، ليس من أجلها، بل من أجل شجرة التوت وأبي يوسف...
-أنا مثلك أطمئن بالجلسة على مصطبة شجرة التوت، وبالاستماع إلى أحاديث أبي يوسف...
قالت سمر:
أنا أذكرك وأذكر تعذيب والدي لك، وأذكر يوم تركت البيت وغبت، وراحت أم يوسف تسأل عنك وتبحث، لكنها لم تجد لكِ أثراً... وأخيراً سمعت أنّك تزوجت في المدينة...
-تعرّفت إلى زوجي مصادفة، فأعجبته وطلب مني الزواج، وقبلت دون سؤال أو جواب لأنني كنت دون بيت، كنت كغصن مقطوع من شجرة لا أرض لي ولا دار ولا أهل ولا أحد...
وزوجي ليس عظيماً أو رجلاً بكل معنى الكلمة، لكنه يحترمني، ولا يتركني محتاجة لشيء... سكتت سمر. لم تتكلم، أخذتها هواجسها إلى حيث شجرة التوت وسرحت بها في دروب القرية ومرت بها على البيوت والساقية وبيت ابن الصبرة، وابن يوسف بوحمود... تساءلت في نفسها: سلمان هل يمكنه أن يتزوج الآن؟ وهل يمكنه أن يؤمّن لي حاجاتي؟ إنه شاب... وحبيب... لكن الحب عند والدي يموت، وتذوي أغصانه... وتنتهي حياته سريعاً...
قطعت جوهرة على سمر رحلة تأملاتها:
-بماذا تفكرين الآن؟..
-بالعودة إلى القرية.
-لماذا... للعيش مع الشقاء والغضب والفقر؟
-معك حق يا جوهرة... لكنني أحب القرية وشجرة التوت وأبا يوسف، أشعر دائماً بأنها علامة خير وحياة لكل القرية... أراها أحياناً في نومي... أخاف عليها من الرياح القوية ومن العطش الشديد، وأتمنى أن أزورها وأجلس قربها كل يوم...
-أنا معك في أن تزوري شجرة التوت وأبا يوسف، لكن ما رأيك في الزواج؟
-أوف... أوف... ما أتعس الحياة وأضيقها لا... لا... أنا الآن لا أفكر بالزواج.
-بماذا تفكرين إذن؟
-لا يوجد تفكير الآن بالزواج... أفكر بالدراسة... وبأمي وبالجيران... الزواج لم أفكر به حتى اليوم...
-ادرسي عندي، وعيشي عندي، وعندما تنتهي الدراسة تفكرين بالزواج... ما رأيك؟
صمتت سمر... أخذتها ريح التذكر والتأمل وابتعدت بها عن أختها: هل يعقل أنني أفكر بالزواج؟ والدراسة التي حلمت بها طويلاً... وكلمات أبي يوسف: "أنت يا سمر من الجيدات في القراءة والحفظ، وقد وهبتك الدنيا جمالاً وحسناً... لكن والدك صعب والعيش معه مر، وأنا أخاف عليك من غضب والدك".
زوجة ابن الحمودة بعد أن أنهت عملها في البيت والأرض المجاورة للبيت.... فكرت بأن تذهب إلى بيت أبي يوسف، لتجلس عند أم يوسف، وتستطلع منها أحوال الناس والدنيا... لكنها ما أن أسندت ظهرها إلى حائط البيت حتى غفت، ولم يوقظها إلا صوت ولدها العائد من المدينة حيث يدرس:
-أمي... أمي... أمي... مالك تتكلمين وأنت نائمة؟
-بارك الله بك يا ولدي... لأنك أرحتني من حلم مخيف وصعب...
-فعلاً... كنت تتنفسين تنفساً ضيقاً، وتتكلّمين كلاماً غير مفهوم... وتحاولين أن تصرخي، فلم تستطيعي... ماهو هذا الحلم الصعب يا أمي؟
-أنساني أن أسألك عن نفسك وأمور دراستك.
-قولي ما هو؟
-صدقني يا ولدي أنني شاهدت شجرة التوت تهوي، تقتلعها ريح قوية. وتهدم بيت أبي يوسف... ورأيت الجيران يحاولون أن يوقفوا انهدام البيت أو يسندوا جذع التوتة، أو أن يحضروا الألحفة ليمنعوا البرد عن أبي يوسف...
تصورت نفسي مع الجيران... أحاول أن أساعد أم يوسف... لتجمع الدجاجات، وتحميها من المطر... وكثيراً يا بني حاولت أن أنادي الناس ليأتوا... وأن أدعو للتوتة بالبقاء ولأبي يوسف وبيته بالخير والدوام، لكنني كنت لا أستطيع، كما رأيتني أنت حين وصلت وأنا نائمة.
نظر ولد ابن الحمودة إلى أمه فوجدها مبللة بالعرق وخائفة إلى حد بعيد... ووجدها تنظر إلى جهة شجرة التوت بلهفة وشوق، وكأنها لم ترها منذ سنة أو أكثر... ونظر إلى جهة شجرة التوت، فرآها تتسع في الأفق، وتمتد في الجهات ورأى الطيور تسعى إليها، وقد استوقفه الطائر الأخضر الجناحين الكبير الذي خاف من قضبان دبق ابن الأحمد وانقطع أياماً على أثر ذلك، لا يزور التوتة، ثم عاد إلى أفقها وأغصانها وإلى تغريده حتى إن ولد ابن الحمودة مطّ رقبته قليلاً فبانت لـه مصطبة التوتة، وبان عليها ابن الأحمد وابن الصبرة وابن الصالح وأبو يوسف، وحديثهم كان مسموعاً:
- هل تعلم يا أبا يوسف أنني كلما نظرت إلى أرض النبع أحزن.
-أنت على حق يا ابن الأحمد، في أن تحزن على أرض والدك وأرضك من بعده التي سلبها ابن الحسن منك بالحيلة والمكر والنفاق والرشوة.
قال ابن الصالح:
-أنا أذكر منذ سنوات بعيدة وكنت حينها طفلاً، أذكر والدك يا ابن الأحمد، وأذكر الكوخ القصبي، الذي كان مبنياً في أعلى الأرض.
ردّ ابن الصبرة:
-معنى ذلك أنك كنت صغيراً يا ابن الصالح لأن والد ابن الأحمد منذ سنين طويلة غاب...
قال أبو يوسف:
-والد ابن الأحمد من العتيقين في قريتنا، وكان كريماً ويحب عشرة الطيور وصيدها، وقد بنى منذ بدأ يزرع أرض النبع كوخاً من القصب، وكان يستريح فيه، وفي أيام التين ينام فيه.
قال ابن الصبرة:
-مرة "ركض ورائي ووراء ابن الحمودة ووراء يوسف بوحمود، لأننا مررنا من قرب دلبة الساقية الكبيرة، ورفعنا أصواتنا، ففر طائر كبير كان قضيب الدبق أمسك به".
عاد أبو يوسف إلى الحديث:
-عادة ابن الأحمد في إمساك العصافير بالدبق ورثها عن والده.
سأل ابن الصبرة:
-وعادة الغضب على أولاده والانعزال عن الجيران من أين جاءته؟
-إنها نقمة الفقر تجر على الإنسان الشقاء والغضب والتعاسة... ولا ننسى يا ابن الصبرة أن أرض ابن الأحمد أخذت منه بالقوة، ولم يستطع إعادتها...
صمت ابن الصبرة ومثله ابن الصالح...
قال ابن الصبرة في سره: "أبو يوسف يعرف أسرار الأمور ويفسّرها... كيف غاب عني أن ابن الأحمد أخذت أرضه التي ورثها عن والده؟
-اهتمي بنفسك جيداً... واشترت لها بعض الثياب، وحاولت أن تشعرها بأن الحياة في المدينة نعمة لا بعدها ولا قبلها... لكن روح سمر لم تستطع أن تعشق المدينة بسرعة، وبقيت شجرة التوت تشدها بألف خيط... وبقي أبو يوسف وحكاياته وأيامه ملء خيالها...
في اليوم الثالث سألت جوهرة أختها:
كيف ترين الحياة هنا يا سمر؟؟ ألم تفرحي بحياتنا في المدينة؟؟.
صمتت سمر... ولم تجب حتى بالإشارات...
-عادت جوهرة وسألتها:
-مالك ساكتة هكذا... قولي لي، ألم تعجبك حياتي؟؟.
-لا أعرف يا جوهرة إن كانت حياتك تعجبني أو لا تعجبني، أنا الآن أتمنى أن أعود إلى القرية.
-أنت لا تعرفين الحياة ولا تعرفين كيف يعيش الناس.
-أنا الآن أفكر في حياة قريتنا، وأذكر أبا يوسف وشجرة التوت، وأتمنى لو أنني ودّعته، وودّعت أم يوسف وكل الجيران... أنا خائفة يا جوهرة...
-من ماذا خائفة؟؟.
-لا أعرف... لكنني أتمنى لو أنني جلست عند أبي يوسف وسمعت حكاياته قبل أن أجيء إلى عندك. سكتت جوهرة، ولم تضف أية كلمة، لأنها تعرف أبا يوسف، وتعرف شجرة التوت الواسعة التي أمام بيته، وتعرف أم يوسف وتزورها كلما قصدت القرية، لكنها لم تألفه ولم تتعلق به كما تعلقت به سمر... قالت في نفسها:
"أبو يوسف –فعلاً- عجوز حنون، عشرته حنونة، وشجرته حنونة، لكن الزواج من الأغنياء يخلص المرأة من الحاجة".
عادت سمر إلى الحديث:
أنت يا جوهرة غبت عن القرية منذ سنوات طويلة، وقد تكونين نسيت أبا يوسف وشجرة التوت، أمّا أنا فلم أنسَ لا أبا يوسف ولا شجرة التوت... أنا أتمنى أن أجلس عند أبي يوسف يوماً كاملاً، استمع لـه وهو يحكي عن أيامه وشغله، وسفره وفلاحته، وعن أم يوسف وأيامها معه، وعن الينابيع والأشجار والطيور.
أبو يوسف إلى اليوم يخبئ البيضات عن أم يوسف ويعطيها للأولاد، ويعطيهم الفرنكات... ويجلسهم على مصطبته في الهواجر والمساءات...
إنه يشبه نبع الساقية عندما يتدفق في الصيف... وليت أبي مثله... ليته يكون رحيماً بنا، ليته لم يشرّدنا كأوراق غصن يابس... ليته كان كأبي يوسف، وليت أشجارنا كشجرته، لكان رحمنا من البؤس والضياع والعار...
قالت جوهرة بحسرة:
-آه يا سمر... أراك كبرت بسرعة، وأراك تفهّمت وضع حياتنا مع والدنا بشكل جيد... المدرسة علّمتك ونفعتك...
كان البحر لطيفاً كأطفال يلعبون مع الريح، وكانت رائحة ذكريات قرية شجرة التوت ملء أنفاس جوهرة وسمر... وكان الصيف مزدحماً بالناس والمساء، لكن سمراً وجوهرة بقيتا في دنيا شجرة التوت وأبي يوسف وأيام العيش المريرة... عادت جوهرة إلى حديثها:
أنت يا سمر تعلمت في المدرسة، ونجحت، أما أنا فلم أقترب من المدرسة، ولم أحمل دفتراً أو كتاباً في حياتي... أيامي مع والدي كانت أقسى من أيامك ويومها كانت شجرة التوت وكان بيت أبي يوسف، لكن أبا يوسف كان مسافراً... مرت علي أيام وليال لم أجرؤ على النوم في البيت خوفاً من والدي، كنت أحاول الذهاب إلى بيت أبي يوسف لأنام عند أم يوسف، لكن أم يوسف ليست كأبي يوسف، لتحميني وتساعدني... أذكر إلى اليوم أنني في يوم من أيام البرد والمطر خفت من والدي، فلم أرجع إلى البيت، وذلك لأمر بسيط يتعلق بسلة مشمش... في الليل ذهبت إلى عند أم يوسف، كانت وحيدة في البيت... نمت عندها على المصطبة الداخلية، لكنها في اليوم الثاني ذهبت إلى والدي وراحت تنصحه وتحضّه على ضربي وإزعاجي وطردي من البيت...
قالت سمر:
-حياتنا مع والدي صعبة يا جوهرة... لكنك أنت أخذت أكبر نصيب من عذاب العيش معه.
عادت جوهرة إلى الحديث:
-تصوري يا سمر رغم أن أم يوسف كانت توصي والدي وتنصحه بأن يضربني ويطردني فقد أزورها وأحمل لها الأغراض، ليس من أجلها، بل من أجل شجرة التوت وأبي يوسف...
-أنا مثلك أطمئن بالجلسة على مصطبة شجرة التوت، وبالاستماع إلى أحاديث أبي يوسف...
قالت سمر:
أنا أذكرك وأذكر تعذيب والدي لك، وأذكر يوم تركت البيت وغبت، وراحت أم يوسف تسأل عنك وتبحث، لكنها لم تجد لكِ أثراً... وأخيراً سمعت أنّك تزوجت في المدينة...
-تعرّفت إلى زوجي مصادفة، فأعجبته وطلب مني الزواج، وقبلت دون سؤال أو جواب لأنني كنت دون بيت، كنت كغصن مقطوع من شجرة لا أرض لي ولا دار ولا أهل ولا أحد...
وزوجي ليس عظيماً أو رجلاً بكل معنى الكلمة، لكنه يحترمني، ولا يتركني محتاجة لشيء... سكتت سمر. لم تتكلم، أخذتها هواجسها إلى حيث شجرة التوت وسرحت بها في دروب القرية ومرت بها على البيوت والساقية وبيت ابن الصبرة، وابن يوسف بوحمود... تساءلت في نفسها: سلمان هل يمكنه أن يتزوج الآن؟ وهل يمكنه أن يؤمّن لي حاجاتي؟ إنه شاب... وحبيب... لكن الحب عند والدي يموت، وتذوي أغصانه... وتنتهي حياته سريعاً...
قطعت جوهرة على سمر رحلة تأملاتها:
-بماذا تفكرين الآن؟..
-بالعودة إلى القرية.
-لماذا... للعيش مع الشقاء والغضب والفقر؟
-معك حق يا جوهرة... لكنني أحب القرية وشجرة التوت وأبا يوسف، أشعر دائماً بأنها علامة خير وحياة لكل القرية... أراها أحياناً في نومي... أخاف عليها من الرياح القوية ومن العطش الشديد، وأتمنى أن أزورها وأجلس قربها كل يوم...
-أنا معك في أن تزوري شجرة التوت وأبا يوسف، لكن ما رأيك في الزواج؟
-أوف... أوف... ما أتعس الحياة وأضيقها لا... لا... أنا الآن لا أفكر بالزواج.
-بماذا تفكرين إذن؟
-لا يوجد تفكير الآن بالزواج... أفكر بالدراسة... وبأمي وبالجيران... الزواج لم أفكر به حتى اليوم...
-ادرسي عندي، وعيشي عندي، وعندما تنتهي الدراسة تفكرين بالزواج... ما رأيك؟
صمتت سمر... أخذتها ريح التذكر والتأمل وابتعدت بها عن أختها: هل يعقل أنني أفكر بالزواج؟ والدراسة التي حلمت بها طويلاً... وكلمات أبي يوسف: "أنت يا سمر من الجيدات في القراءة والحفظ، وقد وهبتك الدنيا جمالاً وحسناً... لكن والدك صعب والعيش معه مر، وأنا أخاف عليك من غضب والدك".
* * *
زوجة ابن الحمودة بعد أن أنهت عملها في البيت والأرض المجاورة للبيت.... فكرت بأن تذهب إلى بيت أبي يوسف، لتجلس عند أم يوسف، وتستطلع منها أحوال الناس والدنيا... لكنها ما أن أسندت ظهرها إلى حائط البيت حتى غفت، ولم يوقظها إلا صوت ولدها العائد من المدينة حيث يدرس:
-أمي... أمي... أمي... مالك تتكلمين وأنت نائمة؟
-بارك الله بك يا ولدي... لأنك أرحتني من حلم مخيف وصعب...
-فعلاً... كنت تتنفسين تنفساً ضيقاً، وتتكلّمين كلاماً غير مفهوم... وتحاولين أن تصرخي، فلم تستطيعي... ماهو هذا الحلم الصعب يا أمي؟
-أنساني أن أسألك عن نفسك وأمور دراستك.
-قولي ما هو؟
-صدقني يا ولدي أنني شاهدت شجرة التوت تهوي، تقتلعها ريح قوية. وتهدم بيت أبي يوسف... ورأيت الجيران يحاولون أن يوقفوا انهدام البيت أو يسندوا جذع التوتة، أو أن يحضروا الألحفة ليمنعوا البرد عن أبي يوسف...
تصورت نفسي مع الجيران... أحاول أن أساعد أم يوسف... لتجمع الدجاجات، وتحميها من المطر... وكثيراً يا بني حاولت أن أنادي الناس ليأتوا... وأن أدعو للتوتة بالبقاء ولأبي يوسف وبيته بالخير والدوام، لكنني كنت لا أستطيع، كما رأيتني أنت حين وصلت وأنا نائمة.
نظر ولد ابن الحمودة إلى أمه فوجدها مبللة بالعرق وخائفة إلى حد بعيد... ووجدها تنظر إلى جهة شجرة التوت بلهفة وشوق، وكأنها لم ترها منذ سنة أو أكثر... ونظر إلى جهة شجرة التوت، فرآها تتسع في الأفق، وتمتد في الجهات ورأى الطيور تسعى إليها، وقد استوقفه الطائر الأخضر الجناحين الكبير الذي خاف من قضبان دبق ابن الأحمد وانقطع أياماً على أثر ذلك، لا يزور التوتة، ثم عاد إلى أفقها وأغصانها وإلى تغريده حتى إن ولد ابن الحمودة مطّ رقبته قليلاً فبانت لـه مصطبة التوتة، وبان عليها ابن الأحمد وابن الصبرة وابن الصالح وأبو يوسف، وحديثهم كان مسموعاً:
- هل تعلم يا أبا يوسف أنني كلما نظرت إلى أرض النبع أحزن.
-أنت على حق يا ابن الأحمد، في أن تحزن على أرض والدك وأرضك من بعده التي سلبها ابن الحسن منك بالحيلة والمكر والنفاق والرشوة.
قال ابن الصالح:
-أنا أذكر منذ سنوات بعيدة وكنت حينها طفلاً، أذكر والدك يا ابن الأحمد، وأذكر الكوخ القصبي، الذي كان مبنياً في أعلى الأرض.
ردّ ابن الصبرة:
-معنى ذلك أنك كنت صغيراً يا ابن الصالح لأن والد ابن الأحمد منذ سنين طويلة غاب...
قال أبو يوسف:
-والد ابن الأحمد من العتيقين في قريتنا، وكان كريماً ويحب عشرة الطيور وصيدها، وقد بنى منذ بدأ يزرع أرض النبع كوخاً من القصب، وكان يستريح فيه، وفي أيام التين ينام فيه.
قال ابن الصبرة:
-مرة "ركض ورائي ووراء ابن الحمودة ووراء يوسف بوحمود، لأننا مررنا من قرب دلبة الساقية الكبيرة، ورفعنا أصواتنا، ففر طائر كبير كان قضيب الدبق أمسك به".
عاد أبو يوسف إلى الحديث:
-عادة ابن الأحمد في إمساك العصافير بالدبق ورثها عن والده.
سأل ابن الصبرة:
-وعادة الغضب على أولاده والانعزال عن الجيران من أين جاءته؟
-إنها نقمة الفقر تجر على الإنسان الشقاء والغضب والتعاسة... ولا ننسى يا ابن الصبرة أن أرض ابن الأحمد أخذت منه بالقوة، ولم يستطع إعادتها...
صمت ابن الصبرة ومثله ابن الصالح...
قال ابن الصبرة في سره: "أبو يوسف يعرف أسرار الأمور ويفسّرها... كيف غاب عني أن ابن الأحمد أخذت أرضه التي ورثها عن والده؟
ريانية العود- إدارة
- عدد المساهمات : 17871
تاريخ التسجيل : 15/01/2011
الموقع : قلب قطر
رد: شجرة التوت... حسين عبد الكريم...رواية
الجرن كان فارغاً من القمح، والدجاجات في ظل أغصان التوتة... وصلت رباب إلى أول دريب البيت، واتّجهت عبره باتجاه الساحة، لم تسمع أي صوت، ولم ترَ أحداً على مصطبة البيت... فقدّرت: أم يوسف عند زوجة ابن الحمودة، لكنها قبل أن تفكر بالذهاب إلى بيت ابن الحمودة بحثاً عن أم يوسف جاءها صوتها من الداخل:
-من أنتِ... سمعت خطوك؟؟
سمعت خطوات رباب لكنها لم ترها...
ردّت رباب بسرعة:
-أنا رباب...
اتّكأت أم يوسف على يدها اليمنى ونهضت حتى استوت قاعدة على المصطبة قرب العمود، مسحت وجهها بكلتا يديها، وشدّت منديلها... ونظرت إلى جهات البيت بحثاً عن الحمامات والأفراخ... ونادت:
-ماذا تريدين يا رباب:
-أريد أن أشتري بعض البيضات لوالدي...
-تعالي... ادخلي...
دخلت رباب بثوبها الباهت وبنطلونها القصير قليلاً، حتى يظن من يراها لأول مرة أنها شمّرته لتتفادى تلوثه بالغبار أو بسواه...
قالت أم يوسف لها منذ رأتها بباب البيت:
-هل جلبت من والدك ثمن البيضات التي ستأخذينها... قولي بصراحة... ولا تحاولي أن تخبئي عني، فينالك حسابك من والدك، وأنا سآخذ كامل ثمن البيضات قرشاً قرشاً...
وهج الهاجرة كان قاسياً، ورائحة ماء السد لم تسعد أنفاس ولد ابن الحمودة وسلمان وحسان... ولا أنفاس سمر التي جلست على مصطبة البيت في ظلال شجرات المشمش هرباً من لهيب الهاجرة.
نظر سلمان إلى بيت ابن الأحمد، فلمح رباباً تفتح باب السياج الخشبي، وتخرج.. فقدّر أنها قادمة إلى أم يوسف لشراء البيض...
سأل حسان ولد ابن الحمودة:
-هل أنهيت دراستك في الجامعة؟؟
-بعد شهرين أو ثلاثة أنهي آخر الفصول في الجامعة.
-وبعد أن تنتهي من الجامعة ماذا ستعمل؟
-علمها عند القائمين على الأمور والقاعدين عليها، وقد تعلم ذلك شجرة أبي يوسف، فهي أدرى بالأمور. وأنت وسلمان في أية سنة صرتما في الدراسة.؟؟
-أنا صرت في الجامعة في السنة الأولى، أما سلمان فقد شغله الحب عن كل أمر، وأنساه أن يقرأ، فرسب ولم ينجح إلا بالعشق...
تلعثمت رباب بالكلام، ولم تنفذ حيلتها بإخفاء بعض الفرنكات عن أم يوسف لعلمها الأكيد أن أم يوسف لن تتساهل بتحصيل حسابها، وذلك سيجر عليها الويل من والدها... لأنه إذا علم من أم يوسف أن ثمن البيضات ناقص سيتأكد من أن رباباً أخذت الفرنكات الناقصة، وسيفرض عقوبة شديدة بحقها، ولهذا دفعت رباب كامل الفرنكات لأم يوسف فور وصولها إلى المصطبة...
أخذت أم يوسف الفرنكات من رباب، ونظرت إليها وتبيّنت عددها، وقالت لرباب:
-جلبت معك فقط عشر فرنكات معنى ذلك ستأخذين ست بيضات..
-نعم يا أم يوسف، هذا ما قاله لي والدي:
اذهبي إلى أم يوسف واجلبي لنا من عندها ست بيضات، لكن: قولي لها أن تعطيك من البيضات الطريّات.
-اسم الله على والدك وعليك... وهل يبيت عندي بيض، حتى يوصيني والدك بأن أرسل لـه من البيضات الطريات؟
-أنا أعرف أن الجيران يشترون من عندك البيض كل يوم.
-لا... يا رباب الفهيمة... اسم الله عليك: أنا أبيع كل البيضات التي أجمعها للدكان. حارت رباب، وخافت من أن تتكلّم أية كلمة أخرى، لأن أم يوسف لن توافقها على أية كلمة تقولها، وستؤنبها، في كل الأحوال سواء تكلمت أم صمتت...
قامت أم يوسف بعد أن زمّت شفتيها، ودقّقت النظر إلى رباب والفرنكات... مشت عبر البيت باتجاه /العرزال/... لاحقتها رباب بنظراتها، واستوقفتها طريقة أم يوسف العجيبة بالمشي وشمر أثوابها المتراكمة على جسدها الضائع بين الثياب...
من تحت العرزال أخذت أم يوسف وعاء من القش مملوءاً بالبيض، وعادت خطوات قليلة باتجاه رباب، قالت لها:
خذي... هذه هي البيضات، وانتبهي إليها ولا تكسريها، أثناء مشيك على الدرب.
خرجت رباب على مهل، وانطلقت عبر ساحة البيت المزدحمة بالدجاجات والديوك وأفراخ الحمام... لم تجرؤ رباب على الالتفات طويلاً إلى الساحة ودرج البيت ولا شجرة التوت والمصطبة...
كادت تصطدم بحفاف المصطبة وبجذع التوتة، ولم تجرؤ على النظر خوفاً من أن تراها عينا أم يوسف... وكادت تصطدم بزوجة ابن الحمودة، دون أن تراها...
لكن زوجة ابن الحمودة بادرتها بالكلام.
-أين كنت يا رباب؟
-كنتُ عند أم يوسف أشتري البيض.
-انتبهي إلى البيضات وأنت تمشين على الدرب...
انطلقت رباب عبر الدرب باتجاه بيت والدها، وزوجة ابن الحمودة احتمت بسرعة بأغصان شجرة التوت من حر الهاجره الشديد... قبل أن تنعطف عبر درب بيت أبي يوسف، نظرت إلى جهة أرض وبيت ابن الصبرة، فألفت زوجته أم محمود تهيئ التنور وتجمع الحطب استعداداً للخبز في المساء..
شاهدت رباب سلمان وحسان وولد ابن الحمودة وهم يتجهون إلى جهة السد، لكنها لم تقدّر في تلك اللحظات ما سبب ذهابهم إلى السد...
دفعت باب السياج الخشبي إلى الأمام، ودخلت صادفت، أختها عند السياج، تتسلى بأفكارها وهواجسها:
-ألم تشاهدي سلمان؟
-أين هو؟
-انظري إلى جهة السد...
رفعت حاجبيها ونظرت إلى حيث أشارت رباب، فظهر لها سلمان وحسان وولد ابن الحمودة... قالت رباب:
-أين يذهبون في هذه الهاجرة الحارة؟
-لا أعرف... وقد شاهدت زوجة ابن الحمودة ذاهبة إلى بيت أبي يوسف...
-من أنتِ... سمعت خطوك؟؟
سمعت خطوات رباب لكنها لم ترها...
ردّت رباب بسرعة:
-أنا رباب...
اتّكأت أم يوسف على يدها اليمنى ونهضت حتى استوت قاعدة على المصطبة قرب العمود، مسحت وجهها بكلتا يديها، وشدّت منديلها... ونظرت إلى جهات البيت بحثاً عن الحمامات والأفراخ... ونادت:
-ماذا تريدين يا رباب:
-أريد أن أشتري بعض البيضات لوالدي...
-تعالي... ادخلي...
دخلت رباب بثوبها الباهت وبنطلونها القصير قليلاً، حتى يظن من يراها لأول مرة أنها شمّرته لتتفادى تلوثه بالغبار أو بسواه...
قالت أم يوسف لها منذ رأتها بباب البيت:
-هل جلبت من والدك ثمن البيضات التي ستأخذينها... قولي بصراحة... ولا تحاولي أن تخبئي عني، فينالك حسابك من والدك، وأنا سآخذ كامل ثمن البيضات قرشاً قرشاً...
* * *
وهج الهاجرة كان قاسياً، ورائحة ماء السد لم تسعد أنفاس ولد ابن الحمودة وسلمان وحسان... ولا أنفاس سمر التي جلست على مصطبة البيت في ظلال شجرات المشمش هرباً من لهيب الهاجرة.
نظر سلمان إلى بيت ابن الأحمد، فلمح رباباً تفتح باب السياج الخشبي، وتخرج.. فقدّر أنها قادمة إلى أم يوسف لشراء البيض...
سأل حسان ولد ابن الحمودة:
-هل أنهيت دراستك في الجامعة؟؟
-بعد شهرين أو ثلاثة أنهي آخر الفصول في الجامعة.
-وبعد أن تنتهي من الجامعة ماذا ستعمل؟
-علمها عند القائمين على الأمور والقاعدين عليها، وقد تعلم ذلك شجرة أبي يوسف، فهي أدرى بالأمور. وأنت وسلمان في أية سنة صرتما في الدراسة.؟؟
-أنا صرت في الجامعة في السنة الأولى، أما سلمان فقد شغله الحب عن كل أمر، وأنساه أن يقرأ، فرسب ولم ينجح إلا بالعشق...
* * *
تلعثمت رباب بالكلام، ولم تنفذ حيلتها بإخفاء بعض الفرنكات عن أم يوسف لعلمها الأكيد أن أم يوسف لن تتساهل بتحصيل حسابها، وذلك سيجر عليها الويل من والدها... لأنه إذا علم من أم يوسف أن ثمن البيضات ناقص سيتأكد من أن رباباً أخذت الفرنكات الناقصة، وسيفرض عقوبة شديدة بحقها، ولهذا دفعت رباب كامل الفرنكات لأم يوسف فور وصولها إلى المصطبة...
أخذت أم يوسف الفرنكات من رباب، ونظرت إليها وتبيّنت عددها، وقالت لرباب:
-جلبت معك فقط عشر فرنكات معنى ذلك ستأخذين ست بيضات..
-نعم يا أم يوسف، هذا ما قاله لي والدي:
اذهبي إلى أم يوسف واجلبي لنا من عندها ست بيضات، لكن: قولي لها أن تعطيك من البيضات الطريّات.
-اسم الله على والدك وعليك... وهل يبيت عندي بيض، حتى يوصيني والدك بأن أرسل لـه من البيضات الطريات؟
-أنا أعرف أن الجيران يشترون من عندك البيض كل يوم.
-لا... يا رباب الفهيمة... اسم الله عليك: أنا أبيع كل البيضات التي أجمعها للدكان. حارت رباب، وخافت من أن تتكلّم أية كلمة أخرى، لأن أم يوسف لن توافقها على أية كلمة تقولها، وستؤنبها، في كل الأحوال سواء تكلمت أم صمتت...
قامت أم يوسف بعد أن زمّت شفتيها، ودقّقت النظر إلى رباب والفرنكات... مشت عبر البيت باتجاه /العرزال/... لاحقتها رباب بنظراتها، واستوقفتها طريقة أم يوسف العجيبة بالمشي وشمر أثوابها المتراكمة على جسدها الضائع بين الثياب...
من تحت العرزال أخذت أم يوسف وعاء من القش مملوءاً بالبيض، وعادت خطوات قليلة باتجاه رباب، قالت لها:
خذي... هذه هي البيضات، وانتبهي إليها ولا تكسريها، أثناء مشيك على الدرب.
خرجت رباب على مهل، وانطلقت عبر ساحة البيت المزدحمة بالدجاجات والديوك وأفراخ الحمام... لم تجرؤ رباب على الالتفات طويلاً إلى الساحة ودرج البيت ولا شجرة التوت والمصطبة...
كادت تصطدم بحفاف المصطبة وبجذع التوتة، ولم تجرؤ على النظر خوفاً من أن تراها عينا أم يوسف... وكادت تصطدم بزوجة ابن الحمودة، دون أن تراها...
لكن زوجة ابن الحمودة بادرتها بالكلام.
-أين كنت يا رباب؟
-كنتُ عند أم يوسف أشتري البيض.
-انتبهي إلى البيضات وأنت تمشين على الدرب...
انطلقت رباب عبر الدرب باتجاه بيت والدها، وزوجة ابن الحمودة احتمت بسرعة بأغصان شجرة التوت من حر الهاجره الشديد... قبل أن تنعطف عبر درب بيت أبي يوسف، نظرت إلى جهة أرض وبيت ابن الصبرة، فألفت زوجته أم محمود تهيئ التنور وتجمع الحطب استعداداً للخبز في المساء..
شاهدت رباب سلمان وحسان وولد ابن الحمودة وهم يتجهون إلى جهة السد، لكنها لم تقدّر في تلك اللحظات ما سبب ذهابهم إلى السد...
دفعت باب السياج الخشبي إلى الأمام، ودخلت صادفت، أختها عند السياج، تتسلى بأفكارها وهواجسها:
-ألم تشاهدي سلمان؟
-أين هو؟
-انظري إلى جهة السد...
رفعت حاجبيها ونظرت إلى حيث أشارت رباب، فظهر لها سلمان وحسان وولد ابن الحمودة... قالت رباب:
-أين يذهبون في هذه الهاجرة الحارة؟
-لا أعرف... وقد شاهدت زوجة ابن الحمودة ذاهبة إلى بيت أبي يوسف...
ريانية العود- إدارة
- عدد المساهمات : 17871
تاريخ التسجيل : 15/01/2011
الموقع : قلب قطر
رد: شجرة التوت... حسين عبد الكريم...رواية
-في الليل الفائت كان سراج بيتكم منطفئاً يا أم يوسف، ألم تكونا في البيت لا أنت ولا أبو يوسف؟
-أنا تأخرت عند بنت أخي زوجة ابن الصالح، وأبو يوسف كان عند أولاده أو عند الجيران.
-صدقيني يا أم يوسف أنني أقلق وأشعر بالانقباض والحزن عندما ينطفئ ضوء بيتكم...
-ترى هذه النظرة عند كل الجيران.
-يوم يتأخر أبو يوسف في إشعال السراج أحس بالتعاسة، وأقول لابن الحمودة:
أين ضوء بيت أبي يوسف؟
إنّه منطفئ؟!...
سكتت أم يوسف.. لا لسبب، إلاّ لأنّ النعاس سرقها، فغفت.. نادتها زوجة ابن الحمودة:
-يا أم يوسف أأنت نعسانة؟؟
-نعم... أنا نمت...
-هل تعلمين يا أم يوسف أنني كنت أتمنى لو شاهدت أبا يوسف، لأنني منذ يومين أو ثلاثة أو أكثر رأيت في نومي رؤيا صعبة.
-تأملي الخير... وما هذه الرؤيا؟
-رأيت شجرة التوت تهوي، تقتلعها ريح عاصفة، ورأيت الجيران مجتمعين، لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء... وحاولت أن أنادي، فلم أقدر، بل أحسست أنني سأختنق... لم يستمر حديث زوجة ابن الحمودة وأم يوسف لأن ضجة عالية جاءت من جهة السد ومن كل الجهات:
اسمعي يا أم يوسف صوت حسان:
أسرعوا يا جيران... ساعدونا على حمله، وأرسلوا من يجلب السيارة.
-قومي أختي قومي... لنعرف ما الخبر؟
قمطت أم يوسف رأسها بمنديلها الحريري العتيق، واستندت إلى حفاف المصطبة، ونهضت، وزوجة ابن الحمودة سبقتها... مشت مسرعة عبر الدريب الضيق... وقفت عند طرف البيت ورفعت حاجبيها ونظرت إلى جهة السد، فرأت الناس مجتمعين، وعند بيت ابن الأحمد لمحت رباباً وسمراً وزهوة وابن الأحمد...
فرأت أن تمشي إليهم لتستطلع منهم الخبر... لكنها قبل أن تصل السياج الخشبي عرفت أن ولدها غرق في السد وأسعفه الجيران... ضربت على رأسها ضربة قوية وضاعت في دوار شديد... حتى ارتمت مغشياً عليها قرب سياج أرض ابن الأحمد.
-هل تعلم يا ابن الصبرة أن شجرة التوت رغم قدمها في دنيانا ورغم عشرتنا الطويلة معها فهي إلى اليوم غريبة عنّا في أطوارها وأفعالها وطيورها وأغصانها.؟؟!!
-أنت على حق يا ابن الحمودة... شجرة التوت غريبة الأطوار والأحوال، وتظهر بأشكال وهيئات مختلفة، وأحياناً مفرحة... أنا من هنا من أمام بيتي أراها، وأعرف حالة أغصانها إن كانت ذابلة، وإن كانت خضراء... إني أراها علامة العلامات وشجرة الأشجار... فكم يوجد من الأشجار والمصاطب، لكنني أراها مختلفة، وأرى الجلسة على مصطبتها عند أبي يوسف مختلفة عن الجلسة على أية مصطبة في قريتنا.
-أنت من هنا تراها رغم الكروم التي تمتد بينها وبين بيتك، فكيف أنا وأغصانها تتجاوز سطح بيت أبي يوسف وتصل إلى بيتي وصوت أبي يوسف أسمعه وهو يتكلم كما أسمعك الآن، وضوء سراجه يبشرني بالخير عندما ألمحه من شق صغير في الجدار المقابل لبيتنا، أو عندما يبدو شعاعه من على المصطبة.
-أنا مثلك أرى ضوء سراج بيت أبي يوسف وأفرح، لكنني لا أسمع أبا يوسف إلا حين أزوره.
-انظر إلى أبي يوسف إنه عاد من عند أولاده، انظر إليه إنه دخل إلى ساحة البيت...
-ما رأيك أن نسهر عنده الليلة ونستمع إلى أحاديثه ونحكي له؟؟
-هو قد يذهب إلى بيت كريم، ليسهر عنده أو إلى بيت يوسف بوحمود، ولهذا أسرع في ربط بقراتك وإطعامها، لنتمكن من الوصول إلى بيته قبل أن يذهب إلى بيت أحد الجيران...
-وبيت ابن الأحمد ألا يسهر فيه؟؟
-أحياناً يزوره ويسهر عنده، لكن ابن الأحمد كما تعرف يغيب عن بيته أحياناً أو ينام مبكراً كالدجاج.
كان المساء يحبو لطيفاً كحلمٍ حنون بعيد، وكان ابن الصالح يعبر الساقية باتجاه بيته، وكانت أم محمود منشغلة بالخبز تساعدها زوجة ابن الصالح... ... ... وكانت ريح المراعي محمّلةً برائحة العشب وطعم الصدّاح، والأصوات الخافتة... والطيور تهيم.
نظر ابن الصبرة وابن الصالح وابن الحمودة إلى جهة بيت أبي يوسف فلمحوا ضوء السراج وشجرة التوت التي لم يضعها ظلام العشاء...
أقبل ابن الصالح على مصطبة التنور حيث جلست زوجته، وحيث وضعت أم محمود الأرغفة المشوية الساخنة... فسارعت إلى أنفه رائحة الخبز الحنونة، فسارعت يده إلى رغيف، راح يأكله بشهية... بعد عضات متتالية للرغيف المشوي، عاد إليه رشده وانتبه إلى ابن الحمودة الواقف بانتظار أن يقدم لـه رغيفاً مشوياً... فعاجل ابن الصالح إلى طبق الأرغفة وأخذ منه رغيفاً أسمر شهياً وقدمه لابن الحمودة.
ابن الصبرة لم ينتظر ابن الصالح ليعطيه رغيفاً من طبق الأرغفة، بل سارع إلى الطبق وتناول منه رغيفاً مشويّاً شيّاً جيداً، وراح يمزّقه بأسنانه بتلذّذ...
أم محمود لم تقف بباب التنور حاسرة الرأس، بل وضعت على رأسها منديلاً أبيض مرقعاً، تفادياً لوقوع ما يتطاير من شرر التنور في شعرها، ومثلها فعلت زوجة ابن الصالح، قمطت رأسها بمنديل رمادي. سحبت أم محمود /محراك/ التنور وأسندته إلى حفاف التنور الشمالية، ورفعت بيدها المنديل قليلاً عن عينيها وسألت ابن الصبرة:
-إلى أين ذاهب؟
-مع ابن الحمودة وابن الصالح إلى بيت أبي يوسف.
-هل أطعمت البقرات وسقيتها؟
-نعم...
قال ابن الصالح:
أنتما اسبقاني وأنا ألحق بكما بعد قليل... مشى ابن الحمودة وابن الصبرة باتجاه الساقية والكروم، بينما ابن الصالح انطلق إلى بيته.. قالت لـه زوجته قبل أن يبتعد عن التنور كثيراً:
-لا تنسَ أن تسقي البقرة والخواريف.
-لا تقلقي... لكن لا تبقي عندك طويلاً... أنا جائع.
ابن الصالح أكثر شباباً من ابن الحمودة ومن ابن الصبرة، وهو أصغر منهما سناً، وزوجته أصغر من زوجتيهما... حين وصل ابن الصالح ركض ولده وبنته الفتيان لملاقاته. قال لـه الولد:
-رعينا البقرة والخواريف في المراعي.
-أنتم ومن من الأولاد كنتم في المراعي؟
-كان معنا ولد ابن الأحمد الأعرج، وولد ابن الصبرة...
-هل سقيتما البقرة و /الخواريف/؟
-نعم... سقيناها من الساقية.
ارتاح ابن الصالح لأخبار ولديه عن رعيهما البقرة والخواريف وعن سقيهما، لأنهما بذلك قد أراحاه من مهمة لا يحبذها.
قال لولده:
-هات أعطني كرسياً إلى هنا!!
ركض ولده وأحضر لوالده كرسياً خشبياً متوسط الارتفاع عن سطح اليابسة...؟ أخذه وجلس عليه تحت أغصان شجرة البلوط الكبيرة. نظر إلى جهة بيت أبي يوسف فظهر لـه شعاع ضوء السراج، وظهرت لـه قامة أبي يوسف المعتدلة، المحنية قليلاً وظهرت لـه أم يوسف وهي تميل ميلاتها المعهودة وهي تمشي... ظهرت لـه وهي تغلق باب بيت الدجاجات الخشبي... كان أبو يوسف يهيّئ نفسه للذهاب إلى بيت ابن الأحمد، لأنه وعده أن يسهر عنده منذ أيام. وقف إلى جوار جذع التوتة واستند إليه استناداً يسيراً، وراح يلف لفافته على مهل حتى انتهى منها... مدّ يده إلى جيب /جاكيته/ وسحب منها قداحة... أشعل بها اللفافة... وأخذ منها نفساً عميقاً... وراح يغني:
"صاح ابن شعبان
ريدوني لكم غني.. بطل غناكم وهرجكم عني"
حلق صوته بعيداً في جهات القرية... فسمعه الكثيرون من الجيران... سمعته زوجة ابن الحمودة وقالت في نفسها: "هذا المساء خير علينا، لأن أبا يوسف مسرور الخاطر ومنشرح الصدر".
وسمعه ابن الأحمد وسمعته زهوة وسمر ورباب. صوت أبي يوسف حنون كطعم اللقاءات على مصطبة شجرته... يجيء هادئاً رناناً ممتلئاً برائحة الأيام والذكريات البعيدة... وهو يغني حين تهز وجدانه ريح التذكر والمساءات الحميمة والشقاء، أو حين تبدأ الأحاديث في السهرات.
أعاد صوت أبي يوسف لزوجة ابن الحمودة ذكرى رحيل ولدها... وذكّرها بحكاية ابن شعبان القديمة... لكنها لم تبتعد عن شجرة التوت وضوء بيت أبي يوسف الذي ظهر لها من شق صغير في الجدار المقابل لبيتهم...
لم يستمر أبو يوسف بالغناء، لأن صوت ابن الحمودة وابن الصبرة جاء من جهة الكروم منادياً:
-بوزهرة اقترب من البيت يا أبا يوسف.
بلغ صوت ابن الحمودة سمع أم يوسف، فهّبت واقفة وأسرعت في الخروج من البيت، لتعاين باب بيت الدجاجات الخشبي... إن كان مفتوحاً... ولتتأكّد من سلامة عيدانه، ومن وجود جميع الدجاجات. حين خرجت، كان أبو يوسف واقفاً قرب جذع التوتة، وعيناه متنبّهتان إلى كل الجهات خوفاً من ثعلب /بوزهرة/. وصل ابن الحمودة وابن الصبرة مسرعين إلى حيث وقف أبو يوسف:
-السلام يا ابن الكرام.
-وعليكما السلام
-قال ابن الصبرة:
-مساؤك خير يا أبا يوسف.
-ومساؤك يا ابن الصبرة ويا ابن الحمودة. سمعت زوجة ابن الحمودة صوت زوجها، وعرفت أنه جاء وابن الصبرة إلى عند أبي يوسف، ولهذا نهضت، ولبست /حدوتها/ السوداء الشقية، وانطلقت عبر الدرب المؤدي إلى بيت أبي يوسف.
-أنا تأخرت عند بنت أخي زوجة ابن الصالح، وأبو يوسف كان عند أولاده أو عند الجيران.
-صدقيني يا أم يوسف أنني أقلق وأشعر بالانقباض والحزن عندما ينطفئ ضوء بيتكم...
-ترى هذه النظرة عند كل الجيران.
-يوم يتأخر أبو يوسف في إشعال السراج أحس بالتعاسة، وأقول لابن الحمودة:
أين ضوء بيت أبي يوسف؟
إنّه منطفئ؟!...
سكتت أم يوسف.. لا لسبب، إلاّ لأنّ النعاس سرقها، فغفت.. نادتها زوجة ابن الحمودة:
-يا أم يوسف أأنت نعسانة؟؟
-نعم... أنا نمت...
-هل تعلمين يا أم يوسف أنني كنت أتمنى لو شاهدت أبا يوسف، لأنني منذ يومين أو ثلاثة أو أكثر رأيت في نومي رؤيا صعبة.
-تأملي الخير... وما هذه الرؤيا؟
-رأيت شجرة التوت تهوي، تقتلعها ريح عاصفة، ورأيت الجيران مجتمعين، لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء... وحاولت أن أنادي، فلم أقدر، بل أحسست أنني سأختنق... لم يستمر حديث زوجة ابن الحمودة وأم يوسف لأن ضجة عالية جاءت من جهة السد ومن كل الجهات:
اسمعي يا أم يوسف صوت حسان:
أسرعوا يا جيران... ساعدونا على حمله، وأرسلوا من يجلب السيارة.
-قومي أختي قومي... لنعرف ما الخبر؟
قمطت أم يوسف رأسها بمنديلها الحريري العتيق، واستندت إلى حفاف المصطبة، ونهضت، وزوجة ابن الحمودة سبقتها... مشت مسرعة عبر الدريب الضيق... وقفت عند طرف البيت ورفعت حاجبيها ونظرت إلى جهة السد، فرأت الناس مجتمعين، وعند بيت ابن الأحمد لمحت رباباً وسمراً وزهوة وابن الأحمد...
فرأت أن تمشي إليهم لتستطلع منهم الخبر... لكنها قبل أن تصل السياج الخشبي عرفت أن ولدها غرق في السد وأسعفه الجيران... ضربت على رأسها ضربة قوية وضاعت في دوار شديد... حتى ارتمت مغشياً عليها قرب سياج أرض ابن الأحمد.
* * *
-هل تعلم يا ابن الصبرة أن شجرة التوت رغم قدمها في دنيانا ورغم عشرتنا الطويلة معها فهي إلى اليوم غريبة عنّا في أطوارها وأفعالها وطيورها وأغصانها.؟؟!!
-أنت على حق يا ابن الحمودة... شجرة التوت غريبة الأطوار والأحوال، وتظهر بأشكال وهيئات مختلفة، وأحياناً مفرحة... أنا من هنا من أمام بيتي أراها، وأعرف حالة أغصانها إن كانت ذابلة، وإن كانت خضراء... إني أراها علامة العلامات وشجرة الأشجار... فكم يوجد من الأشجار والمصاطب، لكنني أراها مختلفة، وأرى الجلسة على مصطبتها عند أبي يوسف مختلفة عن الجلسة على أية مصطبة في قريتنا.
-أنت من هنا تراها رغم الكروم التي تمتد بينها وبين بيتك، فكيف أنا وأغصانها تتجاوز سطح بيت أبي يوسف وتصل إلى بيتي وصوت أبي يوسف أسمعه وهو يتكلم كما أسمعك الآن، وضوء سراجه يبشرني بالخير عندما ألمحه من شق صغير في الجدار المقابل لبيتنا، أو عندما يبدو شعاعه من على المصطبة.
-أنا مثلك أرى ضوء سراج بيت أبي يوسف وأفرح، لكنني لا أسمع أبا يوسف إلا حين أزوره.
-انظر إلى أبي يوسف إنه عاد من عند أولاده، انظر إليه إنه دخل إلى ساحة البيت...
-ما رأيك أن نسهر عنده الليلة ونستمع إلى أحاديثه ونحكي له؟؟
-هو قد يذهب إلى بيت كريم، ليسهر عنده أو إلى بيت يوسف بوحمود، ولهذا أسرع في ربط بقراتك وإطعامها، لنتمكن من الوصول إلى بيته قبل أن يذهب إلى بيت أحد الجيران...
-وبيت ابن الأحمد ألا يسهر فيه؟؟
-أحياناً يزوره ويسهر عنده، لكن ابن الأحمد كما تعرف يغيب عن بيته أحياناً أو ينام مبكراً كالدجاج.
* * *
كان المساء يحبو لطيفاً كحلمٍ حنون بعيد، وكان ابن الصالح يعبر الساقية باتجاه بيته، وكانت أم محمود منشغلة بالخبز تساعدها زوجة ابن الصالح... ... ... وكانت ريح المراعي محمّلةً برائحة العشب وطعم الصدّاح، والأصوات الخافتة... والطيور تهيم.
نظر ابن الصبرة وابن الصالح وابن الحمودة إلى جهة بيت أبي يوسف فلمحوا ضوء السراج وشجرة التوت التي لم يضعها ظلام العشاء...
أقبل ابن الصالح على مصطبة التنور حيث جلست زوجته، وحيث وضعت أم محمود الأرغفة المشوية الساخنة... فسارعت إلى أنفه رائحة الخبز الحنونة، فسارعت يده إلى رغيف، راح يأكله بشهية... بعد عضات متتالية للرغيف المشوي، عاد إليه رشده وانتبه إلى ابن الحمودة الواقف بانتظار أن يقدم لـه رغيفاً مشوياً... فعاجل ابن الصالح إلى طبق الأرغفة وأخذ منه رغيفاً أسمر شهياً وقدمه لابن الحمودة.
ابن الصبرة لم ينتظر ابن الصالح ليعطيه رغيفاً من طبق الأرغفة، بل سارع إلى الطبق وتناول منه رغيفاً مشويّاً شيّاً جيداً، وراح يمزّقه بأسنانه بتلذّذ...
أم محمود لم تقف بباب التنور حاسرة الرأس، بل وضعت على رأسها منديلاً أبيض مرقعاً، تفادياً لوقوع ما يتطاير من شرر التنور في شعرها، ومثلها فعلت زوجة ابن الصالح، قمطت رأسها بمنديل رمادي. سحبت أم محمود /محراك/ التنور وأسندته إلى حفاف التنور الشمالية، ورفعت بيدها المنديل قليلاً عن عينيها وسألت ابن الصبرة:
-إلى أين ذاهب؟
-مع ابن الحمودة وابن الصالح إلى بيت أبي يوسف.
-هل أطعمت البقرات وسقيتها؟
-نعم...
قال ابن الصالح:
أنتما اسبقاني وأنا ألحق بكما بعد قليل... مشى ابن الحمودة وابن الصبرة باتجاه الساقية والكروم، بينما ابن الصالح انطلق إلى بيته.. قالت لـه زوجته قبل أن يبتعد عن التنور كثيراً:
-لا تنسَ أن تسقي البقرة والخواريف.
-لا تقلقي... لكن لا تبقي عندك طويلاً... أنا جائع.
ابن الصالح أكثر شباباً من ابن الحمودة ومن ابن الصبرة، وهو أصغر منهما سناً، وزوجته أصغر من زوجتيهما... حين وصل ابن الصالح ركض ولده وبنته الفتيان لملاقاته. قال لـه الولد:
-رعينا البقرة والخواريف في المراعي.
-أنتم ومن من الأولاد كنتم في المراعي؟
-كان معنا ولد ابن الأحمد الأعرج، وولد ابن الصبرة...
-هل سقيتما البقرة و /الخواريف/؟
-نعم... سقيناها من الساقية.
ارتاح ابن الصالح لأخبار ولديه عن رعيهما البقرة والخواريف وعن سقيهما، لأنهما بذلك قد أراحاه من مهمة لا يحبذها.
قال لولده:
-هات أعطني كرسياً إلى هنا!!
ركض ولده وأحضر لوالده كرسياً خشبياً متوسط الارتفاع عن سطح اليابسة...؟ أخذه وجلس عليه تحت أغصان شجرة البلوط الكبيرة. نظر إلى جهة بيت أبي يوسف فظهر لـه شعاع ضوء السراج، وظهرت لـه قامة أبي يوسف المعتدلة، المحنية قليلاً وظهرت لـه أم يوسف وهي تميل ميلاتها المعهودة وهي تمشي... ظهرت لـه وهي تغلق باب بيت الدجاجات الخشبي... كان أبو يوسف يهيّئ نفسه للذهاب إلى بيت ابن الأحمد، لأنه وعده أن يسهر عنده منذ أيام. وقف إلى جوار جذع التوتة واستند إليه استناداً يسيراً، وراح يلف لفافته على مهل حتى انتهى منها... مدّ يده إلى جيب /جاكيته/ وسحب منها قداحة... أشعل بها اللفافة... وأخذ منها نفساً عميقاً... وراح يغني:
"صاح ابن شعبان
ريدوني لكم غني.. بطل غناكم وهرجكم عني"
حلق صوته بعيداً في جهات القرية... فسمعه الكثيرون من الجيران... سمعته زوجة ابن الحمودة وقالت في نفسها: "هذا المساء خير علينا، لأن أبا يوسف مسرور الخاطر ومنشرح الصدر".
وسمعه ابن الأحمد وسمعته زهوة وسمر ورباب. صوت أبي يوسف حنون كطعم اللقاءات على مصطبة شجرته... يجيء هادئاً رناناً ممتلئاً برائحة الأيام والذكريات البعيدة... وهو يغني حين تهز وجدانه ريح التذكر والمساءات الحميمة والشقاء، أو حين تبدأ الأحاديث في السهرات.
أعاد صوت أبي يوسف لزوجة ابن الحمودة ذكرى رحيل ولدها... وذكّرها بحكاية ابن شعبان القديمة... لكنها لم تبتعد عن شجرة التوت وضوء بيت أبي يوسف الذي ظهر لها من شق صغير في الجدار المقابل لبيتهم...
لم يستمر أبو يوسف بالغناء، لأن صوت ابن الحمودة وابن الصبرة جاء من جهة الكروم منادياً:
-بوزهرة اقترب من البيت يا أبا يوسف.
بلغ صوت ابن الحمودة سمع أم يوسف، فهّبت واقفة وأسرعت في الخروج من البيت، لتعاين باب بيت الدجاجات الخشبي... إن كان مفتوحاً... ولتتأكّد من سلامة عيدانه، ومن وجود جميع الدجاجات. حين خرجت، كان أبو يوسف واقفاً قرب جذع التوتة، وعيناه متنبّهتان إلى كل الجهات خوفاً من ثعلب /بوزهرة/. وصل ابن الحمودة وابن الصبرة مسرعين إلى حيث وقف أبو يوسف:
-السلام يا ابن الكرام.
-وعليكما السلام
-قال ابن الصبرة:
-مساؤك خير يا أبا يوسف.
-ومساؤك يا ابن الصبرة ويا ابن الحمودة. سمعت زوجة ابن الحمودة صوت زوجها، وعرفت أنه جاء وابن الصبرة إلى عند أبي يوسف، ولهذا نهضت، ولبست /حدوتها/ السوداء الشقية، وانطلقت عبر الدرب المؤدي إلى بيت أبي يوسف.
ريانية العود- إدارة
- عدد المساهمات : 17871
تاريخ التسجيل : 15/01/2011
الموقع : قلب قطر
رد: شجرة التوت... حسين عبد الكريم...رواية
وصل ولد ابن الأحمد إلى المدينة ظهراً، سأل كثيراً عن الحي الذي تقطنه أخته جوهرة وأخيراً وصل إلى بيتها... من بعيد عرفت جوهرة أخاها، عرفته من مشيته العرجاء، لكنها لم تقدّر سبب مجيئه إليها...
-مرحباً أختي جوهرة.
-أهلاً وسهلاً... كيف عرفت أن تصل إلى بيتي... وأنت لم تزرني قبل اليوم؟؟
-استدلّيت من الناس حتى وصلت.
-كيف والدتك ووالدك وكيف رباب وسمر؟
-تغيّرت ملامح قرميد واسوّدت، وبان عليه الحزن الشديد... سألته جوهرة:
-ما لك أخي قرميد... أخبرني، هل طردك والدي من البيت، أم ماذا؟؟
-لا لم لم يطردني، لكنه أرسلني إلى هنا لأستخبر عن حال سمر...
-عن حال سمر...!!؟؟ هي منذ خمسة أيام تقريباً تركت البيت، ولم تعد، بحجة أنها ذاهبة إلى القرية.
-معنى هذا أن خوف والدي في محله...
-الله، يا قرميد... هل تكون تزوجت وهربت؟
-هذا ما نحن خائفون منه.. خاصة أن والدي شاهد في نومه أن شجرة التوت مقطوعة، وأن بيت أبي يوسف مهجور.
لم تستطع جوهرة أن تتخيل أن شجرة التوت مقطوعة، لكنها خافت خوفاً شديداً، لأنها تعرف تمام المعرفة أن شجرة التوت غريبة وعجيبة بأطوارها وأغصانها وتبدلات حالها... ولأنها تعرف أن بيت أبي يوسف علامة خير على القرية كلها، وإذا أصابته مصيبة، أو انهدم، فذلك نحس كبير وشرّ وضرر...
ابتعدت جوهرة عن أخيها قرميد إلى ذاكرتها... إلى شجرة التوت وبيت أبي يوسف، وتاهت في دروب القرية باحثة عن حكايات أبي يوسف ورائحته وأغانيه... لكن صوت قرميد سحبها من دنيا هواجسها وذهولها:
-آه على سمر خسرناها يا جوهرة!
-هذا حظ كل من ولد في بيتنا يا قرميد!
-أنت محقة يا جوهرة، لكن ما الحيلة؟؟
-لكن ما الحيلة فعلاً يا قرميد؟
-أنا سأعود إلى القرية لكنني لا أعرف ماذا سأقول لوالدي وللجيران ولأبي يوسف وشجرة التوت...
-أبو يوسف يكون تنبأ قبل الجميع بمصير سمر يا قرميد... هل تعرف أنه أول من أخبر القرية بخبر غيابي عن القرية: حين تركت البيت، منذ سنوات. يومها رأى في نومه أن شجرة من الشجرات المحيطة ببيتنا غابت، وأخبر أم يوسف بما رأى، وقال لها: جوهرة بنت ابن الأحمد هربت من البيت يا أم يوسف... وهذا ما حصل فعلاً يا قرميد...
-اسمعي صوت أسعد الشحاذ... إنه يغني يا أم يوسف... وأظنه سيجيء إلينا قبل أي أحد...
-أذكر الديب وحضّر القضيب... أسعد صار عند زاوية أرض التوتة.
-نظر أبو يوسف إلى جهة الدرب فرأى أسعد، حاملاً كيسه العجيب فوق كتفه، نظر أسعد إلى الساحة وبيت الدجاجات الخشبي وإلى عتبة البيت، ليتأكد من وجود أو عدم وجود أم يوسف، لأنه يعرف طباع أم يوسف ولهذا يغيّر في حال وجودها من سلوكه: يركن إلى عقله ومسكنته، بينما إذا كانت غائبة فذلك يسمح لـه بأن يطلب من أبي يوسف الأكل وبعض الفرنكات والقمح... لم يطل أسعد النظر إلى جهات الساحة والبيت، حتى بدت لـه أم يوسف وفي يده تنكة متوسطة الحجم، وفي حلقه كلام يريد أن يقوله لأبي يوسف. أسعد صديق قرية شجرة التوت منذ سنوات وسنوات، فهو لا ينقطع عن زيارتها أكثر من أسبوعين أو ثلاثة... وإذا تأخر يسأل جيران شجرة التوت عن سبب تأخره... وهو لم يتزوج ولن يتزوج، لأن حظه من الجمال كحظه من الغنى، وحظه من الدنيا كحظ أولاد ابن الأحمد من السعادة، جهة وجهه اليمنى مائلة ميلاناً شديداً حتى يخاله الناظر إليه لأول مرة أنه صفع صفعة قوية، أو أن الجوع أكل بعض وجهه، وعينه اليسرى لا تصلح لشيء إلا كعنوان من عناوين الشقاء المرير... وساقه اليسرى تضامنت مع عينه تضامناً بعيداً، فهي عرجاء عرجاً مهماً في تاريخ الفقر والتعاسة والشحار والتشرد، وأهميته تأتي من شجاعته في اجتياز الغابات والمسافات المقفرة...
عندما وصل إلى حفاف المصطبة، أنزل عن كتفه الكيس، ووضعه والتنكة قرب جذع التوتة، وأقبل على أبي يوسف مصافحاً بكلتا يديه...
ضحك أبو يوسف، وهو يرى أسعد يسلم عليه بيديه الاثنتين ويحاول أن ينحني تعبيراً عن كثرة الاحترام...
-كيف حال أخينا أبي يوسف؟
-بخير يا أسعد، لكن لماذا تسلم علي بيديك الاثنتين، وكأنك خائف علي من أن أهرب من بين يديك.
والانحناء، لم أرك تتعامل به معي قبل اليوم هل ورثته عن أبيك أو تعلمته من دنياك أو قلدت به أحد محبي الانحناء.
خرجت من البيت وفي يدها إبريق الشاي والفناجين، فعلم أسعد أن أم يوسف خصته، بفنجان من الشاي. قام أسعد وأدى التحية من قريب إلى أم يوسف وعاد إلى مكانه سالماً معافى... قبل أن تنهي أم يوسف ملء الفناجين بالشاي، قرر أسعد أن يبدأ الحديث عن سمر وزواجها من ولد قحموص العامودي... ليرضي دهشة أم يوسف ويضمن عدم غضبها عليه... أخذ أبو يوسف رشفة من فنجانه، وأشعل لفافته، وقدم لأسعد لفافة عريضة وأشعلها له...
أخذ أسعد نفساً من اللفافة، وبدأ الكلام مع الدخان واللعاب المتطاير من طرفي شفتيه المتباعدتين... قال:
-هل تعلم يا أبا يوسف أين تزوجت بنت ابن الأحمد؟؟
-وهل تعلم أنت يا أسعد...؟؟
دهشت أم يوسف، وشدت جسدها كدجاجة تنتظر أن تأكل أو خائفة من أفعى... قال أسعد:
-نعم أعلم أين تزوجت وأعرف والد زوجها.
-من هو والد زوجها؟.
-قحموص العامودي.
-آخ ثم آخ على حياة سمر إذا كان ولد قحموص كوالده...
-صدقني يا أبا يوسف الولد ألعن من الوالد، ولا أعرف كيف وقعت سمر هذه الوقعة.
-وهل شاهدت سمراً يا أسعد؟
-نعم شاهدتها وحمّلتني لك ولأم يوسف أطيب السلام. أضاف أسعد من عنده سلاماً لأم يوسف طمعاً في فنجان شاي لاحق...
-وأين شاهدتها؟
-شاهدتها في بيت قحموص العامودي... وهي نادمة، لكنها قالت لي: وقعت بين نارين، والدي من جهة وأختي من جهة، واعتقدت أن ابن قحموص جيد... لكن الحظ لم يخدم، وضاعت حياتي.
-قالت أم يوسف بتعجب:
-سبحان معطي العباد الفراسة والعلم... كيف تنبأت بكل هذا يا أبا يوسف قبل أن تسمع أي خبر عن سمر... كيف عرفت أن سمراً تزوجت زواجاً غير موفق، وكيف عرفت أن أختها جوهرة كانت تفكر بتزويجها من قريب من أقرباء زوجها...
-يا أم يوسف، من يعش مع شجرة التوت البرية كل هذه السنين، يعرف الريح من أين تهب قبل هبوبها، ويعرف الطائر من أين يجيء... ويعرف أن سمراً ستضيع حياتها وأيامها قبل أن تظهر شمس النهار...
-مرحباً أختي جوهرة.
-أهلاً وسهلاً... كيف عرفت أن تصل إلى بيتي... وأنت لم تزرني قبل اليوم؟؟
-استدلّيت من الناس حتى وصلت.
-كيف والدتك ووالدك وكيف رباب وسمر؟
-تغيّرت ملامح قرميد واسوّدت، وبان عليه الحزن الشديد... سألته جوهرة:
-ما لك أخي قرميد... أخبرني، هل طردك والدي من البيت، أم ماذا؟؟
-لا لم لم يطردني، لكنه أرسلني إلى هنا لأستخبر عن حال سمر...
-عن حال سمر...!!؟؟ هي منذ خمسة أيام تقريباً تركت البيت، ولم تعد، بحجة أنها ذاهبة إلى القرية.
-معنى هذا أن خوف والدي في محله...
-الله، يا قرميد... هل تكون تزوجت وهربت؟
-هذا ما نحن خائفون منه.. خاصة أن والدي شاهد في نومه أن شجرة التوت مقطوعة، وأن بيت أبي يوسف مهجور.
لم تستطع جوهرة أن تتخيل أن شجرة التوت مقطوعة، لكنها خافت خوفاً شديداً، لأنها تعرف تمام المعرفة أن شجرة التوت غريبة وعجيبة بأطوارها وأغصانها وتبدلات حالها... ولأنها تعرف أن بيت أبي يوسف علامة خير على القرية كلها، وإذا أصابته مصيبة، أو انهدم، فذلك نحس كبير وشرّ وضرر...
ابتعدت جوهرة عن أخيها قرميد إلى ذاكرتها... إلى شجرة التوت وبيت أبي يوسف، وتاهت في دروب القرية باحثة عن حكايات أبي يوسف ورائحته وأغانيه... لكن صوت قرميد سحبها من دنيا هواجسها وذهولها:
-آه على سمر خسرناها يا جوهرة!
-هذا حظ كل من ولد في بيتنا يا قرميد!
-أنت محقة يا جوهرة، لكن ما الحيلة؟؟
-لكن ما الحيلة فعلاً يا قرميد؟
-أنا سأعود إلى القرية لكنني لا أعرف ماذا سأقول لوالدي وللجيران ولأبي يوسف وشجرة التوت...
-أبو يوسف يكون تنبأ قبل الجميع بمصير سمر يا قرميد... هل تعرف أنه أول من أخبر القرية بخبر غيابي عن القرية: حين تركت البيت، منذ سنوات. يومها رأى في نومه أن شجرة من الشجرات المحيطة ببيتنا غابت، وأخبر أم يوسف بما رأى، وقال لها: جوهرة بنت ابن الأحمد هربت من البيت يا أم يوسف... وهذا ما حصل فعلاً يا قرميد...
***
-اسمعي صوت أسعد الشحاذ... إنه يغني يا أم يوسف... وأظنه سيجيء إلينا قبل أي أحد...
-أذكر الديب وحضّر القضيب... أسعد صار عند زاوية أرض التوتة.
-نظر أبو يوسف إلى جهة الدرب فرأى أسعد، حاملاً كيسه العجيب فوق كتفه، نظر أسعد إلى الساحة وبيت الدجاجات الخشبي وإلى عتبة البيت، ليتأكد من وجود أو عدم وجود أم يوسف، لأنه يعرف طباع أم يوسف ولهذا يغيّر في حال وجودها من سلوكه: يركن إلى عقله ومسكنته، بينما إذا كانت غائبة فذلك يسمح لـه بأن يطلب من أبي يوسف الأكل وبعض الفرنكات والقمح... لم يطل أسعد النظر إلى جهات الساحة والبيت، حتى بدت لـه أم يوسف وفي يده تنكة متوسطة الحجم، وفي حلقه كلام يريد أن يقوله لأبي يوسف. أسعد صديق قرية شجرة التوت منذ سنوات وسنوات، فهو لا ينقطع عن زيارتها أكثر من أسبوعين أو ثلاثة... وإذا تأخر يسأل جيران شجرة التوت عن سبب تأخره... وهو لم يتزوج ولن يتزوج، لأن حظه من الجمال كحظه من الغنى، وحظه من الدنيا كحظ أولاد ابن الأحمد من السعادة، جهة وجهه اليمنى مائلة ميلاناً شديداً حتى يخاله الناظر إليه لأول مرة أنه صفع صفعة قوية، أو أن الجوع أكل بعض وجهه، وعينه اليسرى لا تصلح لشيء إلا كعنوان من عناوين الشقاء المرير... وساقه اليسرى تضامنت مع عينه تضامناً بعيداً، فهي عرجاء عرجاً مهماً في تاريخ الفقر والتعاسة والشحار والتشرد، وأهميته تأتي من شجاعته في اجتياز الغابات والمسافات المقفرة...
عندما وصل إلى حفاف المصطبة، أنزل عن كتفه الكيس، ووضعه والتنكة قرب جذع التوتة، وأقبل على أبي يوسف مصافحاً بكلتا يديه...
ضحك أبو يوسف، وهو يرى أسعد يسلم عليه بيديه الاثنتين ويحاول أن ينحني تعبيراً عن كثرة الاحترام...
-كيف حال أخينا أبي يوسف؟
-بخير يا أسعد، لكن لماذا تسلم علي بيديك الاثنتين، وكأنك خائف علي من أن أهرب من بين يديك.
والانحناء، لم أرك تتعامل به معي قبل اليوم هل ورثته عن أبيك أو تعلمته من دنياك أو قلدت به أحد محبي الانحناء.
***
خرجت من البيت وفي يدها إبريق الشاي والفناجين، فعلم أسعد أن أم يوسف خصته، بفنجان من الشاي. قام أسعد وأدى التحية من قريب إلى أم يوسف وعاد إلى مكانه سالماً معافى... قبل أن تنهي أم يوسف ملء الفناجين بالشاي، قرر أسعد أن يبدأ الحديث عن سمر وزواجها من ولد قحموص العامودي... ليرضي دهشة أم يوسف ويضمن عدم غضبها عليه... أخذ أبو يوسف رشفة من فنجانه، وأشعل لفافته، وقدم لأسعد لفافة عريضة وأشعلها له...
أخذ أسعد نفساً من اللفافة، وبدأ الكلام مع الدخان واللعاب المتطاير من طرفي شفتيه المتباعدتين... قال:
-هل تعلم يا أبا يوسف أين تزوجت بنت ابن الأحمد؟؟
-وهل تعلم أنت يا أسعد...؟؟
دهشت أم يوسف، وشدت جسدها كدجاجة تنتظر أن تأكل أو خائفة من أفعى... قال أسعد:
-نعم أعلم أين تزوجت وأعرف والد زوجها.
-من هو والد زوجها؟.
-قحموص العامودي.
-آخ ثم آخ على حياة سمر إذا كان ولد قحموص كوالده...
-صدقني يا أبا يوسف الولد ألعن من الوالد، ولا أعرف كيف وقعت سمر هذه الوقعة.
-وهل شاهدت سمراً يا أسعد؟
-نعم شاهدتها وحمّلتني لك ولأم يوسف أطيب السلام. أضاف أسعد من عنده سلاماً لأم يوسف طمعاً في فنجان شاي لاحق...
-وأين شاهدتها؟
-شاهدتها في بيت قحموص العامودي... وهي نادمة، لكنها قالت لي: وقعت بين نارين، والدي من جهة وأختي من جهة، واعتقدت أن ابن قحموص جيد... لكن الحظ لم يخدم، وضاعت حياتي.
-قالت أم يوسف بتعجب:
-سبحان معطي العباد الفراسة والعلم... كيف تنبأت بكل هذا يا أبا يوسف قبل أن تسمع أي خبر عن سمر... كيف عرفت أن سمراً تزوجت زواجاً غير موفق، وكيف عرفت أن أختها جوهرة كانت تفكر بتزويجها من قريب من أقرباء زوجها...
-يا أم يوسف، من يعش مع شجرة التوت البرية كل هذه السنين، يعرف الريح من أين تهب قبل هبوبها، ويعرف الطائر من أين يجيء... ويعرف أن سمراً ستضيع حياتها وأيامها قبل أن تظهر شمس النهار...
ريانية العود- إدارة
- عدد المساهمات : 17871
تاريخ التسجيل : 15/01/2011
الموقع : قلب قطر
مواضيع مماثلة
» محمد حسين هيكل... رواية زينب
» {{جسر العبور المكسور }}رواية
» فوائد التوت......
» آخر وريقات التوت!
» رواية جريمة قتل بالمتر - أجاثا كريستي
» {{جسر العبور المكسور }}رواية
» فوائد التوت......
» آخر وريقات التوت!
» رواية جريمة قتل بالمتر - أجاثا كريستي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الخميس يونيو 20, 2024 12:29 pm من طرف azzouzekadi
» لحدود ( المقدرة شرعاً )
الثلاثاء يوليو 04, 2023 1:42 pm من طرف azzouzekadi
» يؤدي المصلون الوهرانيون الجمعة القادم صلاتهم في جامع عبد الحميد بن باديس
الأحد ديسمبر 15, 2019 10:06 pm من طرف azzouzekadi
» لا اله الا الله
الأحد يناير 28, 2018 7:51 pm من طرف azzouzekadi
» قصص للأطفال عن الثورة الجزائرية. بقلم داؤود محمد
الثلاثاء يناير 31, 2017 11:52 pm من طرف azzouzekadi
» عيدكم مبارك
الإثنين سبتمبر 12, 2016 11:14 pm من طرف azzouzekadi
» تويتر تساعد الجدد في اختياراتهم
السبت فبراير 06, 2016 3:47 pm من طرف azzouzekadi
» لاتغمض عينيك عند السجود
السبت يناير 30, 2016 10:52 pm من طرف azzouzekadi
» مباراة بين لاعبي ريال مدريد ضد 100 طفل صيني
الخميس يناير 14, 2016 11:18 pm من طرف azzouzekadi