المواضيع الأخيرة
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
ريانية العود | ||||
عادل لطفي | ||||
عذب الكلام | ||||
zineb | ||||
azzouzekadi | ||||
بريق الكلمة | ||||
TARKANO | ||||
ليليان عبد الصمد | ||||
ام الفداء | ||||
السنديانة |
بحـث
.ft11 {FONT-SIZE: 12px; COLOR: #ff0000; FONT-FAMILY: Tahoma,Verdana, Arial, Helvetica; BACKGROUND-COLOR: #eeffff}
.IslamicData
{ font-family: Tahoma, Verdana, Arial, Helvetica, sans-serif;
font-size: 10pt; font-style: normal; line-height: normal; font-weight:
normal; font-variant: normal; color: #000000; text-decoration: none}
الساعة
عدد زوار المنتدى
نقطة عابرة – قصة قصيرة
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
نقطة عابرة – قصة قصيرة
امتلأت المقاعد في صالة المسرح العريق. ووقف البعض في الممرات متململاً يفتش بعين يائسة عن كرسي شاغر بمعجزة في حفلة تُحجَز مقاعدُها ببطاقات محددةِ الأرقام قبلَها بزمن.
تألَّقتِ الصالةُ متوهِّجة تحت نور المصابيح وسرى في جوِّها طنينُ لغْطٍ مرتفع. اتَّجهتْ نظرات الجالسين إلى ستار المنصَّة المنسدل مِن القطيفة القرمزية الداكنة، وعجوزٍ فاحم السَّواد برأسٍ أشيبَ يقود المتأخرين مهرولين إلى كراسيهم بين الصفوف.
لا يُوزَّع برنامج الأغاني في هذه الحفلة. إنه مفاجأة كل مرة. أنت تعلم فحسب أنها ساعة بالحياة وما فيها، تهبُ السلطانة خلالها المتيَّمين بصوتها لحظاتٍ تنزع الرُّوح من البدن وتعلو بها بعيداً . في حفلاتها، كان بعضهم يرتجف باكياً من الانفعال، آخرون يثبون من مقاعدهم طرباً وفرحاً من نشوة عارمة، غيرهم يسند ذقنه إلى قبضة يده ويتنهد سارحاً.
وهذا أنا هناك، أجلس في المقعد الثالث من الصف السابع ناحية الممرّ. نعم. هل رأيْتَني؟. بجوار ذلك الرجل البدين يتقلقل في كرسيّه ينشد أفضل وضعية للجلوس، بالقرب من شابة تناهز الثلاثين تتطلَّع إلى مرآة صغيرة أخفتْها في يدها. عن يميني شخصٌ قلقٌ، يتلفَّت إلى الوراء كل لحظة ويجيل عينيه في الصفوف الخلفية يستوثق من أنَّ الآخرين منفعلون مثله، تكلمه سيدةٌ وقور ولا يصغي إليها. الآن هل لمحْتَني؟ أصارحُكَ بأن ظروفي لم تكن تبيح لي الحصول على بطاقة في تلك الحفلة لكنها هبطتْ على بالمصادفة إذ هاجمتْ أزمةُ ربوٍ زوجَ عمَّتي . كان ضابطاً كبيراً في الجيش، ولم ينْجِب، فاعتبرني في محل ولده لأنني كنتُ أظلُّ واقفاً – عند زيارته لنا - خافضَ الرَّأس لا أجلس أبداً إلا بعد أن يستريح هو على مقعده فيمتدحُني: أنتَ شابٌ محترم. هكذا بدأتْ علاقتُنا. لهذا حصلتُ على البطاقة، وها أنا أرسل بصري إلى المنصَّة منتظراً أن تخفُتَ أنوار الصَّالة وتشرقَ كوكبُ الغناء.
أخذ ستار القطيفة القرمزية بشرائط القصب المذهَّبة اللامعة ينفتح على مهْل. تسمَّرت العيون إلى المنصة وساد الصالة صمتُ الترقُّب وسكونُه. تعاقَبَ الموسيقيون من الجهة اليمنى. دخل عازف القانون الأصلع البدين، والعوَّاد بنظارته السوداء، ثم عازف الناي بملامح وجهه الدقيقة المهذَّبة، وعازف الشيللو الذي قعد واحتضن آلته الضخمة بصمت. تتابع عازفو الكمان، ومِن بعدهم قارعو الدفوف. قاطع ظهورَهم تصفيقٌ من هنا وهناك، ثم اصطفَّ طاقمُ كورسٍ مِن نساء ورجال. أشار الرجل القلق عن يميني كأنما يحدِّث نفسه لمقعدِ عوَّاد شهير ظلَّ مكانُه شاغراً بعد رحيله .
دقيقةٌ وهلَّتْ بعدها كوكبُ الغناء في فستانٍ ورديٍّ فاتحٍ غيرِ محبوكٍ يهبط إلى قدميها، طُرِّزتْ فتحةُ صدره بحبَّاتِ ألماسٍ صغيرة تتلألأ. شعرُها الأسود ملمومٌ للخلف كعكةً مدورةً، وقرطٌ من اللؤلؤ يتدلَّى من أذنيها. تهادتْ مبتسمةً وهي ترفع ذراعيها لأعلى قليلاً. نهض الحضور كلُّه واقفاً للصوت الذي حلَّق عبر كل الأزمنة. ارتفعت الأيادي تخلخل الهواء بتصفيقٍ مدوٍّ، والسلطانة تسير إلى حيث مسقَط الأضواء الكاشفة. هناك أحنتْ رأسها قليلاً. وتجدَّد التصفيقُ كالرَّعد حتى شبع الجمهور من علامات الامتنان على وجها فعاد إلى الكراسي وهو يتطلَّع إليها بشغف مسحور. الآن بوسع كل منهم أن يملأ عينيه بالأسطورة، وإن كانت بعيدة المنال. ظلَّت تختبر صبر محبِّيها بصمتها برْهةً، وحين ساد سكونٌ مطبِقٌ في الجو اهتزَّ طرفُ منديلها المعصور في قبضة يدها اليسرى إشارة للموسيقيين بالبدء.
يا الله ! بدأ التخت يدندن فاندلعت الأكف بالتصفيق ولمعت العيون. انجرف الجميع مع نمنمات إيقاع الرُّق والكمان الشجيّ. رحتُ من مقعدي في خضمِّ البهجة أحدِّج إلى وجهها أحاول أن أتبين قسماتِه. تلك مرة لن تتكرر، فإذا لم أبصر عينيها الغائمتين الآن، فلن أشاهدهما أبدا .
انخرط التشيللو والقانون والناي فى العزف، وتمايلتِ السُّلطانة قليلاً، ثم أطلقتْ آهةً محرقةً جاوبها الجمهور بآهات. ارتدَّتْ للخلف بعنقها ورفعت رأسها بكبريائها المعهودة. غابت نظرتها في الفراغ تحت قبَّة المسرح. باعدتْ ما بين ذراعيها مفرودتين في الهواء، وصمتتْ كأنها تبتهل وتستحضر سرَّها الخاص من أعلى. ثم اندلع صوتُها قوياً يقبض على كل نسمةِ هواءٍ في الجو. أنْشدتْ : "أنا قلبي معك .. مهما جرى .. قلبي معك " أنْشدتْ من مختلف طبقات صوتها الذي لا يخطئ. تندفع إلى الأمام بصدرها في لحظات الذروة، وترتدُّ ثانية تهزُّ رأسها بخفَّة تحت ألق الأضواء ببسمةِ اعتزاز. تقف الصالة كلُّها محمومةً وأكفُّها تلتهب، بينما يعمُّ الصَّمت بين العازفين كأنهم تحجَّروا في مقاعدهم من ألف عام.
في تلك الأثناء كانت كاميرات التسجيل تتنقَّل بين المنصَّة ووجوه بعض الجالسين ونشوة الغيبوبة على ملامحهم. كنتُ سعيداً ومأخوذاً، لكن سيطرة الصوت والنغم التي لا تقاوم كانت تبعث في نفسي قلقاً خفيفاً من سطوةٍ تحلِّقُ وحدها بلا نهاية. استعاد الحاضرون السلطانة مرة واثنتين وعشرين مرة بالصَّفير الملتاع والتصفيق والتأوه، فأغدقتْ عليهم نعَمَها مغرِّدةً بأريحيةٍ وكرم.
* * *
هذا أنا هناك، أجلس في المقعد الثالث ناحية الممرّ. ولكنك لن تتعرف إليَّ فقد انقضى على تلك الحفلة أربعون عاماً، ولم يبق من الفتي النحيف ابنِ العشرين ذي النظرة المستقيمة الطاهرة سوى كهلٌ بدينٌ مصاب بتمدُّدٍ في الرِّئتين يلهث وهو يصعد الدرج. ولم يبق من الحفلة المُبهِجة سوى البطاقة القديمة صفراء خفيفة كالرماد وذاك التسجيل الأبيض والأسود الذي كانت قنوات التلفزيون تبثُّه أحياناً بعد برامجها المسائية.
أجلس وحدي في فسحة الشقَّة. زوجتي تغطُّ في نومها. أمامي على المنضدة صحن به قطعة جبن بيضاء صغيرة وربع رغيف. أفتح التلفزيون وأتنقَّل بين القنوات. يفاجئني ذلك التسجيل القديم كأنه صورةٌ تترقرق تحت سطح الزمن. يدقُّ قلبي بسرعة، وتندفع الدِّماء إلى بدني ، وأحسُّ أني مشحونٌ بالرغبة في القيام بأعمال جليلة، متأهِّبٌ لأشياءَ لا أدري ما هي. أتابع الحفلة وأبحث عن صورتي. لم تتوقف كاميرات التسجيل عند وجهي. أفتِّش بعينيَّ عن الصف السابع، أحصي الصفوف وهي تمرُّ وأجده، وحين تبدو رؤوس الجالسين من أعلى نقاطاً صغيرة سوداء وبيضاء أشير لنقطة صغيرة تعبُر بينها وأقول لنفسي: هذا أنا.
بعد أن كنت أنام بعمق، صرتُ أستيقظ هكذا ما بين الثالثة والرابعة فجراً. أظلُّ قاعداً على سريري في العتمة والسكون وقد شبكتُ يديَّ أمامي على البطَّانية التي تغطِّي ساقيَّ. أتنفَّسُ بهدوء لكي لا أقلق زوجتي. لا أفكر في شيء معين. تتراءى لي في الظلام صالة المسرح متوهِّجة كالشمعة، وعيون الجالسين تلمع وهم يتبادلون ابتساماتِ الحنان وضغطاتِ الأيادي الخفيفة. هل اختفى كل ذلك أم أنَّ الصالة مازالت تحيا في العمق تحت سطح عالم آخر؟. لاحقتني صورة التسجيل، فكنت أذرع فسحة الشقة الصامتة الباردة وحدي. أنظر إلى ساعة الحائط ليلاً. أتمهَّل قليلاً عند النافذة على يميني حيث لا يتسرَّب أي صوت أو ضوء. أتسمَّع رجْع الهواء بين الأشجار العارية بوقٌ تنفخ فيه مئات الأصوات بنفَسٍ واحدٍ من الصالة القديمة.
اليوم ارتديتُ ملابسي، وتعطَّرت. خرجْتُ وأخذتُ أسير من دون هدف إلى أن وجدْتُني أمام مبنى المسرح القديم في شارع عماد الدين. توقَّفتُ، ورحتُ من على الرَّصيف أتأملُ المبنى المهمَل. تراجعتُ للخلف خطوتين. رفعتُ عينيَّ إلى يافطة الإعلان الضَّخمة المعلَّقة، تهرَّأ ورقُها من التراب والمطر وتلوَّتْ أطرافها في الهواء. قطعتُ ممراً مستطيلاً يفضي إلى مدخل المسرح. توقفْتُ أمام الباب المكسو بجلدٍ بهُتَ لونُه الأحمر. دفعْتُه فانفتحَ على مصراعيه وخرَّ من أعلاه ترابٌ خفيف. دخلتُ إلى الصالة التي سكنتْها رائحةُ الغبار. سِرْتُ محاذراً في الممرِّ بين الصفوف. غاصتْ قدمي في حفر تحت البساط المفرود المنسول. رأيتُ المصابيح محطَّمة مغبرَّة في أماكنها، والأبواب الجانبية منحنية إلى الأمام بعد أن تخلَّعتْ مفاصلها، جلودُ الكراسي مشققة. تطلَّعتُ إلى المنصة .. كان الستار مضموماً على الجانبين انطفأتْ فيه لمعةُ شرائط القصب.
وهذا أنا أجلس في المقعد الثالث، أحاول أن أرهفَ السَّمع لصوت الذين ينفخون في بوق واحد بين الأشجار العارية.
لحظات وظهرتْ السلطانة من الجهة اليمنى. كانتْ تدبَّ مُنهكةً وخشبةُ المسرح تَصِرُّ تحت وطأة قدميها. خطَتْ بتثاقل إلى أن بلغتْ وسْط المنصة. تجمَّدْتُ مكاني . انعطفتْ نحوي ومدَّتْ رقبتها. رأيتُ عينيها المفتوحتين واضحتين تحدِّقان فيَّ بعتاب. رفعتْ ذراعيها لأعلى بجهد كبير. مكثتْ لحظةً صامتة وبصرُها مرسلٌ إلى قبَّة المسرح ثم فتحتْ فمها دون صوت. قرأتُ حركةَ شفتيها همساً ضعيفاً: "قلبي معك .. مهما جرى". مالتْ بعنقها نحوي. حدَّجتْ فيَّ وحرَّكتْ شفتيها بفم خالٍ من الأسنان: " قلبي معك ".
أردت أن أقفَ لأغادرَ المكان على وجه السرعة. هممْتُ بالنُّهوض، لكني لم أشعر بساقي، كأن فراغاً قد طوى نصفيَ السفليَّ كلَّه.
تألَّقتِ الصالةُ متوهِّجة تحت نور المصابيح وسرى في جوِّها طنينُ لغْطٍ مرتفع. اتَّجهتْ نظرات الجالسين إلى ستار المنصَّة المنسدل مِن القطيفة القرمزية الداكنة، وعجوزٍ فاحم السَّواد برأسٍ أشيبَ يقود المتأخرين مهرولين إلى كراسيهم بين الصفوف.
لا يُوزَّع برنامج الأغاني في هذه الحفلة. إنه مفاجأة كل مرة. أنت تعلم فحسب أنها ساعة بالحياة وما فيها، تهبُ السلطانة خلالها المتيَّمين بصوتها لحظاتٍ تنزع الرُّوح من البدن وتعلو بها بعيداً . في حفلاتها، كان بعضهم يرتجف باكياً من الانفعال، آخرون يثبون من مقاعدهم طرباً وفرحاً من نشوة عارمة، غيرهم يسند ذقنه إلى قبضة يده ويتنهد سارحاً.
وهذا أنا هناك، أجلس في المقعد الثالث من الصف السابع ناحية الممرّ. نعم. هل رأيْتَني؟. بجوار ذلك الرجل البدين يتقلقل في كرسيّه ينشد أفضل وضعية للجلوس، بالقرب من شابة تناهز الثلاثين تتطلَّع إلى مرآة صغيرة أخفتْها في يدها. عن يميني شخصٌ قلقٌ، يتلفَّت إلى الوراء كل لحظة ويجيل عينيه في الصفوف الخلفية يستوثق من أنَّ الآخرين منفعلون مثله، تكلمه سيدةٌ وقور ولا يصغي إليها. الآن هل لمحْتَني؟ أصارحُكَ بأن ظروفي لم تكن تبيح لي الحصول على بطاقة في تلك الحفلة لكنها هبطتْ على بالمصادفة إذ هاجمتْ أزمةُ ربوٍ زوجَ عمَّتي . كان ضابطاً كبيراً في الجيش، ولم ينْجِب، فاعتبرني في محل ولده لأنني كنتُ أظلُّ واقفاً – عند زيارته لنا - خافضَ الرَّأس لا أجلس أبداً إلا بعد أن يستريح هو على مقعده فيمتدحُني: أنتَ شابٌ محترم. هكذا بدأتْ علاقتُنا. لهذا حصلتُ على البطاقة، وها أنا أرسل بصري إلى المنصَّة منتظراً أن تخفُتَ أنوار الصَّالة وتشرقَ كوكبُ الغناء.
أخذ ستار القطيفة القرمزية بشرائط القصب المذهَّبة اللامعة ينفتح على مهْل. تسمَّرت العيون إلى المنصة وساد الصالة صمتُ الترقُّب وسكونُه. تعاقَبَ الموسيقيون من الجهة اليمنى. دخل عازف القانون الأصلع البدين، والعوَّاد بنظارته السوداء، ثم عازف الناي بملامح وجهه الدقيقة المهذَّبة، وعازف الشيللو الذي قعد واحتضن آلته الضخمة بصمت. تتابع عازفو الكمان، ومِن بعدهم قارعو الدفوف. قاطع ظهورَهم تصفيقٌ من هنا وهناك، ثم اصطفَّ طاقمُ كورسٍ مِن نساء ورجال. أشار الرجل القلق عن يميني كأنما يحدِّث نفسه لمقعدِ عوَّاد شهير ظلَّ مكانُه شاغراً بعد رحيله .
دقيقةٌ وهلَّتْ بعدها كوكبُ الغناء في فستانٍ ورديٍّ فاتحٍ غيرِ محبوكٍ يهبط إلى قدميها، طُرِّزتْ فتحةُ صدره بحبَّاتِ ألماسٍ صغيرة تتلألأ. شعرُها الأسود ملمومٌ للخلف كعكةً مدورةً، وقرطٌ من اللؤلؤ يتدلَّى من أذنيها. تهادتْ مبتسمةً وهي ترفع ذراعيها لأعلى قليلاً. نهض الحضور كلُّه واقفاً للصوت الذي حلَّق عبر كل الأزمنة. ارتفعت الأيادي تخلخل الهواء بتصفيقٍ مدوٍّ، والسلطانة تسير إلى حيث مسقَط الأضواء الكاشفة. هناك أحنتْ رأسها قليلاً. وتجدَّد التصفيقُ كالرَّعد حتى شبع الجمهور من علامات الامتنان على وجها فعاد إلى الكراسي وهو يتطلَّع إليها بشغف مسحور. الآن بوسع كل منهم أن يملأ عينيه بالأسطورة، وإن كانت بعيدة المنال. ظلَّت تختبر صبر محبِّيها بصمتها برْهةً، وحين ساد سكونٌ مطبِقٌ في الجو اهتزَّ طرفُ منديلها المعصور في قبضة يدها اليسرى إشارة للموسيقيين بالبدء.
يا الله ! بدأ التخت يدندن فاندلعت الأكف بالتصفيق ولمعت العيون. انجرف الجميع مع نمنمات إيقاع الرُّق والكمان الشجيّ. رحتُ من مقعدي في خضمِّ البهجة أحدِّج إلى وجهها أحاول أن أتبين قسماتِه. تلك مرة لن تتكرر، فإذا لم أبصر عينيها الغائمتين الآن، فلن أشاهدهما أبدا .
انخرط التشيللو والقانون والناي فى العزف، وتمايلتِ السُّلطانة قليلاً، ثم أطلقتْ آهةً محرقةً جاوبها الجمهور بآهات. ارتدَّتْ للخلف بعنقها ورفعت رأسها بكبريائها المعهودة. غابت نظرتها في الفراغ تحت قبَّة المسرح. باعدتْ ما بين ذراعيها مفرودتين في الهواء، وصمتتْ كأنها تبتهل وتستحضر سرَّها الخاص من أعلى. ثم اندلع صوتُها قوياً يقبض على كل نسمةِ هواءٍ في الجو. أنْشدتْ : "أنا قلبي معك .. مهما جرى .. قلبي معك " أنْشدتْ من مختلف طبقات صوتها الذي لا يخطئ. تندفع إلى الأمام بصدرها في لحظات الذروة، وترتدُّ ثانية تهزُّ رأسها بخفَّة تحت ألق الأضواء ببسمةِ اعتزاز. تقف الصالة كلُّها محمومةً وأكفُّها تلتهب، بينما يعمُّ الصَّمت بين العازفين كأنهم تحجَّروا في مقاعدهم من ألف عام.
في تلك الأثناء كانت كاميرات التسجيل تتنقَّل بين المنصَّة ووجوه بعض الجالسين ونشوة الغيبوبة على ملامحهم. كنتُ سعيداً ومأخوذاً، لكن سيطرة الصوت والنغم التي لا تقاوم كانت تبعث في نفسي قلقاً خفيفاً من سطوةٍ تحلِّقُ وحدها بلا نهاية. استعاد الحاضرون السلطانة مرة واثنتين وعشرين مرة بالصَّفير الملتاع والتصفيق والتأوه، فأغدقتْ عليهم نعَمَها مغرِّدةً بأريحيةٍ وكرم.
* * *
هذا أنا هناك، أجلس في المقعد الثالث ناحية الممرّ. ولكنك لن تتعرف إليَّ فقد انقضى على تلك الحفلة أربعون عاماً، ولم يبق من الفتي النحيف ابنِ العشرين ذي النظرة المستقيمة الطاهرة سوى كهلٌ بدينٌ مصاب بتمدُّدٍ في الرِّئتين يلهث وهو يصعد الدرج. ولم يبق من الحفلة المُبهِجة سوى البطاقة القديمة صفراء خفيفة كالرماد وذاك التسجيل الأبيض والأسود الذي كانت قنوات التلفزيون تبثُّه أحياناً بعد برامجها المسائية.
أجلس وحدي في فسحة الشقَّة. زوجتي تغطُّ في نومها. أمامي على المنضدة صحن به قطعة جبن بيضاء صغيرة وربع رغيف. أفتح التلفزيون وأتنقَّل بين القنوات. يفاجئني ذلك التسجيل القديم كأنه صورةٌ تترقرق تحت سطح الزمن. يدقُّ قلبي بسرعة، وتندفع الدِّماء إلى بدني ، وأحسُّ أني مشحونٌ بالرغبة في القيام بأعمال جليلة، متأهِّبٌ لأشياءَ لا أدري ما هي. أتابع الحفلة وأبحث عن صورتي. لم تتوقف كاميرات التسجيل عند وجهي. أفتِّش بعينيَّ عن الصف السابع، أحصي الصفوف وهي تمرُّ وأجده، وحين تبدو رؤوس الجالسين من أعلى نقاطاً صغيرة سوداء وبيضاء أشير لنقطة صغيرة تعبُر بينها وأقول لنفسي: هذا أنا.
بعد أن كنت أنام بعمق، صرتُ أستيقظ هكذا ما بين الثالثة والرابعة فجراً. أظلُّ قاعداً على سريري في العتمة والسكون وقد شبكتُ يديَّ أمامي على البطَّانية التي تغطِّي ساقيَّ. أتنفَّسُ بهدوء لكي لا أقلق زوجتي. لا أفكر في شيء معين. تتراءى لي في الظلام صالة المسرح متوهِّجة كالشمعة، وعيون الجالسين تلمع وهم يتبادلون ابتساماتِ الحنان وضغطاتِ الأيادي الخفيفة. هل اختفى كل ذلك أم أنَّ الصالة مازالت تحيا في العمق تحت سطح عالم آخر؟. لاحقتني صورة التسجيل، فكنت أذرع فسحة الشقة الصامتة الباردة وحدي. أنظر إلى ساعة الحائط ليلاً. أتمهَّل قليلاً عند النافذة على يميني حيث لا يتسرَّب أي صوت أو ضوء. أتسمَّع رجْع الهواء بين الأشجار العارية بوقٌ تنفخ فيه مئات الأصوات بنفَسٍ واحدٍ من الصالة القديمة.
اليوم ارتديتُ ملابسي، وتعطَّرت. خرجْتُ وأخذتُ أسير من دون هدف إلى أن وجدْتُني أمام مبنى المسرح القديم في شارع عماد الدين. توقَّفتُ، ورحتُ من على الرَّصيف أتأملُ المبنى المهمَل. تراجعتُ للخلف خطوتين. رفعتُ عينيَّ إلى يافطة الإعلان الضَّخمة المعلَّقة، تهرَّأ ورقُها من التراب والمطر وتلوَّتْ أطرافها في الهواء. قطعتُ ممراً مستطيلاً يفضي إلى مدخل المسرح. توقفْتُ أمام الباب المكسو بجلدٍ بهُتَ لونُه الأحمر. دفعْتُه فانفتحَ على مصراعيه وخرَّ من أعلاه ترابٌ خفيف. دخلتُ إلى الصالة التي سكنتْها رائحةُ الغبار. سِرْتُ محاذراً في الممرِّ بين الصفوف. غاصتْ قدمي في حفر تحت البساط المفرود المنسول. رأيتُ المصابيح محطَّمة مغبرَّة في أماكنها، والأبواب الجانبية منحنية إلى الأمام بعد أن تخلَّعتْ مفاصلها، جلودُ الكراسي مشققة. تطلَّعتُ إلى المنصة .. كان الستار مضموماً على الجانبين انطفأتْ فيه لمعةُ شرائط القصب.
وهذا أنا أجلس في المقعد الثالث، أحاول أن أرهفَ السَّمع لصوت الذين ينفخون في بوق واحد بين الأشجار العارية.
لحظات وظهرتْ السلطانة من الجهة اليمنى. كانتْ تدبَّ مُنهكةً وخشبةُ المسرح تَصِرُّ تحت وطأة قدميها. خطَتْ بتثاقل إلى أن بلغتْ وسْط المنصة. تجمَّدْتُ مكاني . انعطفتْ نحوي ومدَّتْ رقبتها. رأيتُ عينيها المفتوحتين واضحتين تحدِّقان فيَّ بعتاب. رفعتْ ذراعيها لأعلى بجهد كبير. مكثتْ لحظةً صامتة وبصرُها مرسلٌ إلى قبَّة المسرح ثم فتحتْ فمها دون صوت. قرأتُ حركةَ شفتيها همساً ضعيفاً: "قلبي معك .. مهما جرى". مالتْ بعنقها نحوي. حدَّجتْ فيَّ وحرَّكتْ شفتيها بفم خالٍ من الأسنان: " قلبي معك ".
أردت أن أقفَ لأغادرَ المكان على وجه السرعة. هممْتُ بالنُّهوض، لكني لم أشعر بساقي، كأن فراغاً قد طوى نصفيَ السفليَّ كلَّه.
ريانية العود- إدارة
- عدد المساهمات : 17871
تاريخ التسجيل : 15/01/2011
الموقع : قلب قطر
مواضيع مماثلة
» قصص قصيرة ولكن فوائدها كبيرة
» نقطة ....نقطتان........ثلاث نقاط..........!!!!!
» الحبّ في زمن البكاء – قصة قصيرة
» فوائد عجيبة إذا وضعت نقطة عسل على السرّة
» عندمـــا تكـــــون الحيااااة مجرد نقطة
» نقطة ....نقطتان........ثلاث نقاط..........!!!!!
» الحبّ في زمن البكاء – قصة قصيرة
» فوائد عجيبة إذا وضعت نقطة عسل على السرّة
» عندمـــا تكـــــون الحيااااة مجرد نقطة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الخميس يونيو 20, 2024 12:29 pm من طرف azzouzekadi
» لحدود ( المقدرة شرعاً )
الثلاثاء يوليو 04, 2023 1:42 pm من طرف azzouzekadi
» يؤدي المصلون الوهرانيون الجمعة القادم صلاتهم في جامع عبد الحميد بن باديس
الأحد ديسمبر 15, 2019 10:06 pm من طرف azzouzekadi
» لا اله الا الله
الأحد يناير 28, 2018 7:51 pm من طرف azzouzekadi
» قصص للأطفال عن الثورة الجزائرية. بقلم داؤود محمد
الثلاثاء يناير 31, 2017 11:52 pm من طرف azzouzekadi
» عيدكم مبارك
الإثنين سبتمبر 12, 2016 11:14 pm من طرف azzouzekadi
» تويتر تساعد الجدد في اختياراتهم
السبت فبراير 06, 2016 3:47 pm من طرف azzouzekadi
» لاتغمض عينيك عند السجود
السبت يناير 30, 2016 10:52 pm من طرف azzouzekadi
» مباراة بين لاعبي ريال مدريد ضد 100 طفل صيني
الخميس يناير 14, 2016 11:18 pm من طرف azzouzekadi